ننقل لكم هذه الأحداث من كتاب (( تاريخ عسير )) للكاتب علي بن أحمد عيسى الذي يُعد كتابه من أفضل الكتب في الساحة حيث وثق هذه الأحداث في كتابه المشار إليه أعلاه الذي أطلع على عشرات المراجع المتخصصة .. وسافر لأجله كاتبه في رحلات وإبتعاثات دراسية إلى كل من جمهورية تركيا وجمهورية مصر العربية .. لجمع الوثائق والمخطوطات وينقلها كما هي
والشكر الجزيل لأخي الحبيب كاتب من الوادي من منتديات عسير الذي سمح لي بأن أنشر هذه السلسله بالإختصار الوافي الذي قام به كمجهود شخصي دون أن يخل بالوقائع الهامه وما حدث فيها من معارك طاحنه .. وبإذن الله ستكون الصوره واضحه للجميع
الحلقة الأولى
في عام 1229هـ نزلت قوات محمد علي في ميناء القنفذة وعاثت فيها فساداً تقطع رؤوس أهلها ثم تقطع آذانهم وترسلها إلى مصر دليلاً على انتصارها في عسير ، فتصدى لها طامي بن شعيب ومعه قبائل عسير ، فقام طامي في بداية الأمر بالاستيلاء على آبار الماء ، وعندما حاولت قوات محمد علي الوصول إليها بالقوة ، حدثت معركة فاصلة انتهت بهزيمة قوات محمد علي ولم ينج منهم إلا قليل ، حاول محمد علي تلافي تلك الهزيمة فأرسل لنجدتهم فرقة من الخيالة ولكن تلك الفرقة هزمت كذلك . (1)
وقد أثرت هذه الهزيمة على موقف محمد علي في الحجاز مما جعله بحاجة إلى إعادة حساباته بالنسبة لتصفية السعوديين فقام بطلب الإمدادات من مصر ، كما قام بإجراء مصالحة عامة مع أهالي الحجاز ومحالفات مع قبائلها . (2)
ولم تكن الهزيمة السابقة في القنفذة كافية لإقناع محمد علي بأنه لا جدوى من تلك المحاولات لضرب العسيرين وإبعادهم عن مشاركة أخوانهم وأمرائهم في نجد ، فقامت قوات محمد علي بالاستيلاء على القنفذة عن طريق قوة جاءت محمولة عن طريق البحر ، ولكن طامي بن شعيب كان لها بالمرصاد حيث أشتبك معها وهزمها هزيمة شنيعة ، حيث عادت فلولها إلى جدة بعد أن تمكنت قبائل عسير من استعادة القنفذة . (3)
محمد علي باشا
ونلاحظ هنا توالي الحملات التي قام بها محمد علي للاستيلاء على القنفذة ، ولم تكن محاولات محمد علي هذه بهدف السيطرة الجزئية على المنطقة ، وإنما كان الهدف منها القضاء على إمارة آل المتحمي التابعة لآل سعود ، والتي كان أميرها طامي بن شعيب من أشد أعداء محمد علي في الحجاز ، فلقد تصدى طامي لقوات محمد علي مرات عديدة ، ومما لا شك فيه أن محمد علي قرر التخلص منه لكي يتفرغ لحرب السعوديين في نجد بعد أن يصفي حساباته في مناطق الحجاز وعسير .
وبعد أن تمكنت قوات عسير بقيادة طامي بن شعيب من القضاء على محاولات قوات محمد علي في بسط نفوذها على مناطق الساحل ، توجه طامي بن شعيب على رأس عشرة آلاف جندي من عسير السراة ورجال ألمع إلى بلاد غامد وزهران ، لمواجهة حركة جديدة قام بها محمد علي على طريق الشمال . وفي الطريق التف حوله عدد كبير من القبائل ، حيث جرت معركة كبيرة في بلاد زهران ، أسفرت عن هزيمة قوات محمد علي وانسحابها من الحجاز . (4)
وبعد هذه المعركة اشترك طامي بن شعيب على رأس قبائل عسير في موقعة البسل ، تلك الموقعة التي دارت رحاها بين القوات السعودية بقيادة فيصل بن سعود وبين قوات محمد علي ، وقد اجتمع فيها للقوات السعودية أكثر من ثلاثين ألف رجل ، وكادت تسفر عن نصر مؤزر للسعوديين لولا وصول نجدات جديدة كانت بقيادة محمد علي نفسه ، مما أدى إلى تغير الموقف تجاه قوات محمد علي ، حين تأثرت بعض جبهات الجيش السعودي – يذكر ابن بشر أن سبب الهزيمة تفكك في جهات غامد وزهران – ولم يلبث ذلك الجيش الكبير أن تشتت شمله وهزم ، واتجه كل قوم إلى بلادهم ليظموا الدفاع عنها ضد أي هجوم مرتقب .
وقد دلت الهزيمة القاسية التي تلقاها الجيش السعودي الكبير ، على أن خللاً حدث في صفوف القوات السعودية ، مما أدى إلى عدم خوضها معركة حقيقية بنفس القوة التي كانت تقاتل بها في المعارك . ويعود ذلك إلى عدم التنسيق في الجبهة السعودية ، وبالتالي إلى عدم الانضباط العسكري بين صفوفها ، إضافة إلى ضعف التدريب والتسليح ، ودخولها المعركة بشكل ارتجالي مما أدى إلى وقوع الهزيمة . وعلى كل فقد كانت معركة بسل من أهم المعارك التي خاضتها الدولة السعودية ضد قوات محمد علي ، فبعدها تمكن محمد علي من إحراز انتصارات سهله ومتوالية . لم يحاول محمد علي التوجه صوب الشرق باتجاه الدرعية عاصمة الدولة السعودية ، بل توجه إلى عسير لمتابعة قوات طامي بن شعيب ، ويعود ذلك إلى عدة أسباب من أهما :
1. بعد معركة بسل وصلت إلى محمد علي أوامر من الباب العالي تحثه على قتال القبائل اليمنية الخاضعة لآل سعود ، ليسهل عليه بعد ذلك مهاجمة الدرعية وهو مأمون الظهر . (5)
2. كان محمد علي يدرك قوة طامي بن شعيب وخطورته على مؤخرة جيشه ، بخاصة بعد الهزائم التي ألحقها طامي بجيشه في القنفذة وبلاد زهران ، ومن هنا فأن محمد علي كان يحس بخطورة هذا القائد وقواته ، فتعمد أن يتكبد الصعاب وأن يتوجه إلى عسير لتصفية حسابه مع طامي بن شعيب وقواته .
ولم تكن مهمة محمد علي هذه المرة سهلة في عسير ، فقد واجه عدداً من القوى المعارضة كما أن القبائل التي قاتلته في تربة لن تتهاون عند مواجهته عندما تواجه قواته بلادها ، وقد مر في طريقة إلى عسير بعدد من المدن والقرى مثل : بيشة وتباله ورنية وخميس مشيط ، حيث استسلمت جميعاً . وتوجه بعد ذلك إلى بلاد عسير فلم يسالمه إلا قبيلة ربيعه ورفيدة وهي قبيلة طامي نفسه ، وظل طامي صامداً مع بقية قبائل عسير السراة ورجال ألمع وبالحمر وبالسمر ، وبعد قتال شديد ومعارك ضارية انتصر محمد علي على قوات طامي بعد أن دمر معظم حصونه وانسحب طامي إلى المخلاف السليماني ، فاستدعاه الحسن بن خالد الحازمي بحجة إيوائه فركن إليه وصدًق وعوده ، ولكن الحسن بن خالد كان من أعداء طامي فقام بتسليمه إلى قوات محمد علي حيث قاموا بإرساله إلى مصر . (6)
ويذكر الجبرتي (7) أنه عند وصول طامي بن شعيب إلى مصر تم التشهير به في ميادين القاهرة وأزقتها على مرأى من الناس ، ومما قاله الجبرتي في وصف وصوله إلى القاهرة : " وبعد مرورهم دخلوا بطامي المذكور وراكب على هجين ، وفي رقبته الحديد والجنزير مربوط في رقبة الهجين ، وصورته رجل شهم عظيم اللحية ، وهو لا بس عباءة عبدانية ويقرأ وهو راكب " .
وتختلف المصادر التاريخية في المكان الذي تم فيه تنفيذ حكم الإعدام بطامي بن شعيب ، فيذكر ابن بشر أنه قد أعدم في القاهرة . بينما يذكر آخرون (8) أنه أعدم في الأستانة . والرأي الثاني أرجح لأن أحكام الإعدام التي نفذت في أقطاب الدولة السعودية تمت كلها في الأستانة عاصمة العثمانيين ، ولم يتم أي منها في مصر ، فلم تكن مصر إلا محطة عبور ، حيث يرسل الأسرى بعد ذلك إلى عاصمة الدولة العثمانية ليتم البت في أمرهم هناك .
ومن خلال المعارك التي خاضها الأمير طامي بن شعيب ومدى ما بذله من جهد عسكري وحنكة قيادية فإنه يعد بحق من أقوى قواد الدولة السعودية الأولى
الحلقة الثانية
وعلى الرغم من قضاء محمد علي باشا على إمارة طامي بن شعيب ، إلا أنه لم يتمكن من القضاء على القبائل العسيرية المناوئة لحكمة في المنطقة لأن ثورتهم لم تكن مرتبطة بشخص واحد مهما كانت قوته وشجاعته ، ولكن الأمير نفسه هو الذي يكسب المعارك بفضل هؤلاء الأبطال من أبناء عسير الأوفياء . ولذلك فإنه لم يكد محمد علي يغادر عسير حتى قام العسيريون بثورة جديدة ، حيث قاموا بتولية أمير آخر من آل المتحمي بقي في عسير ، محمد بن احمد المتحمي ، وقد تولى الأمر في عسير وتمكن من إخراج الحامية التي تركها محمد علي في عسير ، وقام بإعادة سيطرته على بعض القبائل التي حاولت الخروج على سلطته .
وقد واجه محمد بن أحمد المتحمي صعوبات جمّة في إعادة سيطرته ، فقد تكالبت عليه القوى الداخلية والخارجية ، ففي أول ولايته اصطدم بحمود أبو مسمار في أبي عريش وقد انهزم في تلك المعركة . ولم يلبث طويلاً أن جمع شتات قواته حتى هزم على يد حمله عثمانية أرسلت لاسترداد عسير ، وقد حاول جاهداً جمع قبائل عسير لإخراج القوات العثمانية مرة أخرى ، ولكنهم تخلوا عنه في أحلك الظروف فهزم من الحامية الموجودة في طبب .
وأمام المصاعب التي واجهها محمد بن أحمد المتحمي اضطر إلى التعاون مع حمود أبو مسمار أمير المخلاف السليماني بهدف إخراج العثمانيين من عسير . وكان يهدف من هذا التعاون مع حمود أبو مسمار إضعاف العثمانيين عن طريق ضرب أحدهما بالآخر ، وقد لبى أبو مسمار طلب محمد بن أحمد المتحمي هذا ، وتوجه على رأس قواته وقوات عسير إلى عسير واستولى عليها ، وقام بطرد الحامية العثمانية منها وقد تصدى لعدة محاولات من قبل محمد علي لاستردادها حتى توفي عام 1233هـ وكانت وفاته في بلاد عسير .
وبعد وفاة أبو مسمار بقيت جيوشه تحت قيادة ابنه أحمد بن حمود والحسن بن خالد الحازمي ، وظل محمد بن أحمد المتحمي متحالفاً مع هذه القوات بهدف الوقوف في وجهة قوات محمد علي ، حتى وجهت إليهم جملة بقيادة ( خليل آغا ) ، وتمكنت هذه الحملة من أسر محمد بن أحمد المتحمي الموجود في أبي عريش وسفرته إلى مصر ، كما أجبرته على أن يكتب إلى عمالة وحامياته في أرجاء البلاد يطلب منهم التسليم وذلك عام 1234هـ وكانت هذه الحملة عن طريق تهامة .
ثم جاءت حملة أخرى عن طريق السراة بقيادة محمد بن عون وتمكنت من هزيمة محمد بن أحمد المتحمي ، الذي كان على رأس قبائل عسير في مواجهتها ، وأخذته هو وأبنه مداوي ، حيث أرسلا إلى القاهرة أسيرين .
( راوية عثمان بشر ) .
بعد استشهاد محمد بن أحمد المتحمي توالت غارات أحمد باشا والي محمد علي على الحجاز بمساعدة شريف مكة محمد بن عون ، واستمرت أحوال عسير في فوضى واضطراب مابين فتن قبلية وحروب متلاحقة من جانب قوات محمد علي في الحجاز ، وكان محمد بن عون يعتبر نفسه أميراً على الحجاز وعسير ، فقام بوضع حامية في طبب ، وعين أميراً من قبله على عسير وهو : الشريف هزاع .
وفي عام 1238هـ / 1823م قرر شريف مكة أن يقوم بغزوة لوادي الدواسر ، وقد جند لهذه الغزوة رجال القبائل ومن جملتهم قبائل عسير ، وكان على رأس قبائل عسير الأمير (سعيد بن مسلط) ، ولكنه تأخر وهو وبعض قبائل عسير السراة ورجال ألمع ، وعندما لحق بشريف مكة الحق به بعض الإهانه فرجع ابن مسلط غاضباً ومعه قبائل عسير ، وهجم على حامية الشريف في طبب فطردهم منها وأحرق المركز الرئيسي في طبب ، وقام بالسيطرة على عسير .
ولم تكن ثورة عسير على قوات محمد علي نزوة غضب أدت إلى الاستقلال بل إن الوثائق تشير إلى أن علي بن مجثل كان يراسل الكثير من الأعيان والأصدقاء في الحجاز والمخلاف السليماني ، شارحاً لهم موقفه من قوات محمد علي ، واستقلاله عنها ، واقتطع هنا نبذه من تلك الوثيقة فنقول : " سلام الله الأتم . . . وبعد وصلت خطوطك وفهمنا مضمون الجميع ، وتعلم أن القومة لله لا لغرض من الأغراض ، ولا يخفاك مع وصول خطك الأول ، أنا قد جوّبنا عليك ، بما في خواطرنا بمحضر كبار عسير وشهران ورفيدة ، وبني الأسمر وبني الأحمر ، وبني شهر وبلقرن وبني عمرو ، ومن حضر من أابر عبيدة ، وسنحان ، ومن حضر من دراعية ، ورجال همدان ، وصدرنا الخط يواجهك في القنفذة ، وأما الباشا فلا نرى الخط عنده وجه , لأنا ما نعلم له عندنا من المطالب شيء ، فأن أراد العافية والسكون ، فيخلينا ويخلي سبيلنا وأن يدور الفتن / ومراده يوازينا عند طوارفنا . فنستعين عليه بقاصم الجبابرة "
وتؤكد لنا الوثيقة السابقة أن الثورة كانت قد تمت عام 1238هـ / 1823م ، وأن قبائل عسير قاطبة التفت حول أمراء عسير بهدف إنهاء إنها وجود قوات محمد علي في عسير ، كما تؤكد الوثيقة أنه لا يوجد أي سبيل للتفاهم مع أحمد باشا ما لم يكف عن محاولاته الرامية إلى التدخل في شؤون عسير الداخلية .
ولم يقف أشراف الحجاز ومن ورائهم محمد علي مكتوفي الأيدي أمام خروج عسير عن تبعيتها للحجاز ، فقد وردت الأوامر إلى ( أحمد باشا يكن ) في الحجاز بضرورة القيام برد مناسب على العسيرين وأوصت الوثيقة بتحري الدقة وضرورة التنسيق مع أشراف الحجاز قبل القيام بهذه العملية .
وقد توجهت حملة إلى عسير عام 1238هـ وقد تمكنت قبائل عسير من هزيمة تلك الحملة بعد معارك عنيفة ، وأسفرت تلك المعارك عن سقوط الشريف راجح قتيلاً في المعركة ، وانسحاب القوات المهاجمة من عسير .
من الملاحظ أن هذه الثورة لم تقتصر على قبائل المحيطة بأبها بل شملت كل قبائل عسير ، حيث ثارت قبائل بيشة وقاموا بمحاصرة الحامية الموجودة فيها ، وتعذر إيصال الذخيرة إلى المحاصرين بسبب ثورة غامد وزهران وشمران وبلقرن ، وكل هذه القبائل تسيطر على الطريق الممتد بين بيشة والحجاز وقد اضطر محمد علي إلى إرسال الأوامر لوالي جدة باتخاذ السبل الكفيلة بإنهاء حالة الحصار على قواته الموجودة في بيشة .
ومما يدل على أن ثورة عسير كانت ثورة شعبية ، هو كون أهالي بيشة بعثوا رسائل إلى القبائل المجاورة لهم يحرضونهم على الثورة مما دفع جميع القبائل من غامد وزهران شمالاً حتى بلقرن ورنية ونواحيها، إلى القيام بتلك الثورة استجابة لنداء إخوانهم في بيشة .
ولم تمض فترة بسيطة حتى قام محمد علي بتجهيز حملة جديدة توجهت إلى عسير بهدف إخضاعها مرة أخرى لنفوذ محمد علي ، ونظراً لضخامة تلك الحملة فقد قرر سعيد بن مسلط اتخاذ حرب عصابات وسيلة لمواجهتها ، وقد تمكنت تلك الحملة من التوغل داخل عسير واستولت على طبب والسقا ، ولكن عسير لم تدخل في الطاعة ، لأن رجال القبائل لم يلقوا السلاح بل ظلوا يواصلون المقاومة لقوات أحمد باشا المهاجمة . وقد أدت حرب العصابات التي اتبعها العسيريون إلى إلحاق أفدح الأضرار بقوات محمد علي ، وتأزم الموقف على قوات محمد علي نتيجة موت الجمال ونفذ الذخيرة ، مع استمرار المقاومة في عسير ضد تلك القوات .
وتفيد الوثائق أن الموقف بين عسير وبين قوات محمد علي ظل موقفاً حربياً متفجراً ، فرغم قوة الحملات التي أرسلها محمد علي إلى عسير إلا أنها اصطدمت برجال القبائل الأشداء الذين مارسوا ضدها حرباً شرسة ، معتمدين على طبيعة المنطقة الجبلية ، وعلى حرية الحركة لكونهم يتبعون أسلوب حرب العصابات ، وذلك الأسلوب الذي أدى إلى إلحاق أفدح الأضرار بقوات محمد علي المهاجمة لعسير .
وبعد أن تمكن أحمد باشا من تحقيق انتصار جزئي في عسير حاول أن يقوم بجمع أسلحة رجال القبائل هناك ، بهدف القضاء على وسيلة المقاومة التي تمكنهم من مهاجمة قواته المهاجمة ، ولكي يفرض سيطرته الكاملة على عسير ، ولكن أهل عسير رفضوا هذا الابتزال ، وأخبروه أن الموت أهون عليهم من تسليم أسلحتهم ثم انفضوا حوله ، ومما ورد في الوثيقة : (( فلا يقتضى بعد الآن أن يوجد بيدكم بنادق ، فلتذهبوا بأدبكم وشرفكم لتسلموها ، وعندما فهم كل منهم هذه الكلمات الشديدة أجابوا جميعهم نرضى بقتلنا ولا نعطي بنادقنا )) .
ولم يكن أهل عسير من السذاجة بدرجة تجعلهم يركنون إلى وعود أحمد باشا ، وإنما كانوا يتحينون الفرص المناسبة للانقضاض على قوات أحمد باشا ، وقد واتتهم الفرصة عندما أنسحب أحمد باشا إلى الحجاز وأبقى محمد بن عون على رأس حامية في عسير ولكن قبائل عسير قامت بحصار محمد بن عون في طبب وأسفر الحصار عن انسحاب محمد بن عون من عسير مع جميع قوات محمد علي هناك ، مقابل توقيعه على اتفاق يتنازل بموجبة عن منطقة عسير ، ويعترف فيها بحدود معلومة لعسير تمتد من بارق شمالاً حتى صبيا والشقيق جنوباً .
ولقد كان العسيريون حريصون على قيام الصلح بينهم وبين أشراف الحجاز ومحمد علي وفي سبيل ذلك الصلح قاموا بإرسال الهدايا إلى أحمد باشا يكن وإلى محمد بن عون ، وكانت تلك الهدايا عبارة عن ثلاث خيول ومعها رسائل ودية تتعلق بالاتفاقية المبرمة بين الجانبين . وذلك دليل على النوايا الحسنة لأهل عسير ، ولكن ومع وجود هذه النوايا الحسنة ، فلقد كانوا متيقظين لأية محاولة للإخلال بتلك الإتفاقية ، وما ورد في الوثيقة : (( فإن كان الصلح استتم على مضمون ما راح عليه الربع فعرفونا وإن كنتم خالفتم عنه فعرفونا والنقا بقا )) .
ويظهر أن القيادة في عسير كانت خلال هذه الفترة شبة قيادة جماعية ، بدليل أن تلك الرسالة المرسلة إلى محمد بن عون موقعه من سعيد بن مسلط وعلي بن مجثل ، ولا شك أن أهل عسير كانوا عبارة عن ثوار على الدولة العثمانية ، ولذلك فإنه لم يكن مهما لديهم من سيكون الأمير إنما كان الأهم هو أن تنجح الثورة أولاً .
ولم يلبث الموقف أن أنفجر بين عسير وقوات محمد علي في الحجاز ويعود ذلك إلى الأسباب الآتية :
1.عدم موافقة سعيد بن مسلط على إحضار مشائخ عسير إلى مكة لمقابلة أحمد باشا ، وكان أحمد باشا يهدف إلى استدراج أولئك المشائخ إلى جانبه ، في حين كان كلن سعيد بن مسلط يخشى غدر أحمد باشا بأولئك المشائخ .
2. وصلت الأخبار إلى أحمد باشا بأن أهل عسير يقومون بإجراء تحصينات واستعدادات حربية تحسباً لأي هجوم تشنه قوات محمد علي في الحجاز إضافة إلى قيام سعيد بن مسلط بإرسال كتاب إلى تركي بن عبد الله آل سعود ، فرد عليه تركي بأن أرسل شيخاً من كبار مشائخ آل سعود إلى عسير ، مما أثار أحمد باشا حيث قال : " وأنه بعث خفيه خطاباً لتركي بن عبد الله من جماعة آل سعود فأرسل هو إليه شيخاً من المشائخ النبهاء المرعى الخواطر في أيام السعود ، وأنه إن كان يتظاهر بمظهر الطاعة لكن مراده التمكن من تقوية نفسه ... فحرر ورقة إلى الدويش فتلطف فيها معه ليغزو جماعة تركي بن عبد الله
وهكذا أتخذ أحمد باشا اتصال أهالي عسير بأمرائهم السابقين ، وقيامهم بتحصين بلادهم ذريعة لطلب الإمدادات من محمد علي حتى يقوم بهجوم جديد على عسير ، ناكثا بذلك العهود والمواثيق التي وقعها مع العسيرين قبل ذلك .
الحلقة الثالثة
وفي سبيل تنفيذ مخطط أحمد باشا شن على عسير هجوماً من اتجاهين : فالهجوم الأول عن طريق القنفذة والهجوم الثاني عن طريق الحجاز وذلك بهدف تشتيت قوات عسير .
وأمام إصرار أحمد باشا على مهاجمة عسير مرة أخرى أنقسم أهالي عسير إلى فريقين .
فريق أنه يرى أنه لا مناص من الصمود والوقوف في وجهة القوات المهاجمة بكل شجاعة وثبات ، وفريق آخر يرى أن إعلان الخضوع والموافقة على السلام مع أحمد باشا يجنب البلاد ويلات الحروب وأضرارها.
ولكن في النهاية تغلب الجانب المتشدد وقرر أهل عسير مواصلة التصدي لقوات محمد علي ، وتوجهت حملة كبيرة إلى عسير ، وتمكنت من التوغل داخل عسير حتى وصلت إلى مناظر ، وقام كثير من قبائل عسير بطلب الأمان من أحمد باشا ، أما ابن مجثل و سعيد بن مسلط فقد طلبا الأمان على أساس الاستقلال رجال ألمع تحت حكمهم فقط ، ولكن أحمد باشا رفض هذا العرض ظنا منه أنه سيتمكن من تحطيم ذلك المعقل الأخير .
نلاحظ من خلال دراسة الوثائق السابقة أن أحمد باشا يحاول التقليل من قوة العسيرين. فقد رفض أحمد باشا الموافقة على التنازلات التي قدمها ابن مجثل ، ظنا منه أن سيتمكن من القضاء عليه بسهولة ، وكان هدف أحمد باشا الغدر بأمير عسير وإلقاء القبض عليه ، حيث تقول الوثيقة : ( ولما كانت مطالبهم هذه غير لائقة فقد أجبتهم وأفهمتهم أنه لا يعطى من قبلنا أماناً مثل هذا ، فإذا رغب الشقي المذكور أعطى الأمان لنفسه ، وقد أعيدوا بهذا الجواب وإلى الآن لم يعد الرجال المذكورين إلى طرف عبدكم . وأن مراد عبدكم أنه إذا قبل بمثل هذا الأمان أعطى إليه على أمل القبض عليه بعد ذلك ) .
وكان من نتيجة تعنت أحمد باشا واستهتاره بقوة العسيرين أن وقع في مأزق حقيقي ، حيث وصل إلى أبها بقواته ، ثم انقطعت الاتصالات بينه وبين السواحل . بسبب سيطرة ثوار عسير على المناطق الواقعة بين أبها وبين المواني الرئيسة لعسير مثل القنفذة وعتود . وقد بلغ من تأزم الموقف أن رسولاً بُعث إلى أحمد باشا عجز عن الوصول إليه في أبها ، على الرغم من محاولته التنكر بزي أعرابي إلا أنه أخبر في الطريق أنه سيقع في يد العسيرين إن آجلاً أو عاجلاً لذا فقد قرر العودة إلى جدة مرة أخرى دون أن يتمكن من مقابلة أحمد باشا المحاصر في أبها .
ومما ورد في تلك الوثيقة : ( فذهبت من جدة إلى القنفذة ومنها إلى مرفأ عتود الذي هو تحت مأمورية الشريف علي بن حيدر فطلبت من الشريف المذكور استحصال وسيلة للمسير بهجان في ريق مسلوك يوصل إلى طرف ولدكم المحافظ المشار إليه ومعسكر جيشه ، ولكن لم نتمكن من استحصال طريق للمسير حيث أجابني الشريف قائلاً : إن أشقياء عسير الذين لم يدخلوا في الطاعة يتجولون في الطريق من مرفأ عتود إلى عقبة مناظر )) .
وأزداد الأمر سوءاً عندما قام أحمد باشا بمحاولة للهجوم على السقا عاصمة عسير ، ومن ثم النزول إلى رجال ألمع بهدف القضاء على القوة الموجودة لعسير هناك . وعلى الرغم أن أحمد باشا تمكن من استقطاب بعض ضعاف النفوس من قبائل عسير التي استولى عليها وضمهم إلى جيشه ، إلا أن ذلك لم يجد شيئاً ، حيث حاول إنزال هؤلاء العسكر العرب إلى رجال ألمع لمهاجمة قوات عسير المتحصنة هناك ، فلقيت تلك القوات هزيمة شنيعة ووقع قائدها أغا مانع(1) أسيراً في أيدي رجال ألمع .
وقد أدى هذا التغير إلى ارتفاع الروح المعنوية بين رجال عسير ، فتقدموا من رجال ألمع إلى السقا حيث كان تمركز أحمد باشا وقاموا بمهاجمة قواته ، فحاول الانسحاب إلى طبب ولكن العسيرين أخذوا في ملاحقته أثناء ألانسحاب ، مما ألحق أقدح الخسائر بقواته إضافة إلى الاستيلاء على معظم المؤن والعتاد الحربي الذي كان في معسكر أحمد باشا ، وقد اضطرت هذه الهزيمة أحمد باشا إلى توقيع صلح مع عسير ، ويعترف بموجبه باستقلال مناطق عسير الممتدة من بلسمر وبارق شمالاً إلى حدود أبي عريش جنوباً ، وفي نفس الوقت سمح العسيرين لأحمد باشا بالجلاء بقواته نهائياً من عسير حيث أتجه بقواته إلى القنفذة ومنها إلى الحجاز .
ولم يمكث أمير عسير آنذاك طويلا بعد هذا الانتصار الكبير ،حيث وافته المنية في شهر صفر 1241هـ /1826م ، فتولى بعده ابن عمه علي بن مجثل ، وكان بمنزلة أمير عسير أثناء حياته ، وكانت ولايته قد حظيت بموافقة أهل عسير جميعاً .
وقد ظلت عسير صامدة في وجه محاولات محمد علي للاستيلاء عليها طوال فترة حكم علي بن مجثل ، الذي تولى الإمارة من عام 1241هـ إلى 1249هـ ، وكان موقف عسير قد أصبح أكثر قوة في أيامه مما كان عليه الحال أيام سعيد بن مسلط ، لأن عسير خلال حكم سعيد بن مسلط امتصت كل الهجمات والمحاولات التي قام بها محمد علي وأشراف الحجاز لاستعادتها ، بل أخذت تعمل على توسيع حدودها في المناطق المجاورة لها من الحجاز وتهامة مستغلة الظروف الصعبة التي كان يمر بها حكم محمد علي في الحجاز .
الحلقة الرابعة
بعد وفاة الأمير علي بن مجثل سنة 1249هـ أوصى لابن عمه عايض بن مرعي في تسلم مقاليد حكم عسير ، ووافق على ذلك أهل الحل والعقد فيها .
وكان عايض بن مرعي من أشجع وأنبل رجال عسير وأشدهم في الحروب ، توسم فيه ابن عمه علي بن مجثل الشجاعة والإقدام ، ورأى أنه أهل لمواجهة الموقف العصيب الذي تمر به عسير ، حيث كانت حدودها الشمالية والجنوبية تتعرض لهجمات قوات محمد علي المرابطة في المنطقة
كان أول عمل خارجي قام به الأمير عائض هو مهاجمة أبي عريش ، ويعود السبب في ذلك إلى أن شريف أبو عريش علي بن حيدر رفض أن يبايع عايض بن مرعي ، مدعياً أن العلاقة بينه وبين عسير انتهت بنهاية حكم علي بن مجثل . فكان رد عايض بن مرعي أن جهز حمله كبيرة تقدم بها نحو أبو عريش ، ولكن الشريف علي بن حيدر تمكن من الصمود ، حيث ساعدته بعض قوات محمد علي التي كانت تتمركز في حصون أبو عريش ، مما أضطر محمد بن عائض إلى فك الحصار عن أبي عريش والعودة إلى عسير ، وذلك في شهر ذي الحجة من عام 1249هـ .
وكان السبب الرئيسي الذي أجبر عايض بن مرعي على فك الحصار عن أبي عريش هو أن الأخبار وصلته بتقدم حملة كبيرة من الحجاز بقيادة شريف مكة محمد بن عون وأحمد باشا يكن محافظ الحجاز ، مما اضطره إلى فك الحجاز إلى فك الحصار عنها والعودة إلى عسير للدفاع عن بلاده والوقوف في وجه تلك الحملة الكبيرة ، وقد نجح نجاحاً كبيراً في قيادة عسير لمواجهة قوات محمد علي ، فعلى الرغم من قوة الحملة وكثرتها واستعدادها ، وعلى الرغم مما حققته من انتصارات أوليه إلا أنها منيت أخيراً بهزيمة شنيعة ، واضطرت إلى الجلاء عن عسير بعد معارك قوية خاضها أهل عسير تحت قيادة أميرهم عايض بن مرعي .
ومن أسباب نجاح عسير في صد هذه الحملة الكبيرة :
1. صعوبة المنطقة ووعورتها أدت إلى نجاح عايض بن مرعي في حربة ضد قوات محمد علي ، فعندما كانت تهاجم قوات محمد علي المراكز الرئيسية للعسيرين كان العسيريون ينسحبون إلى أعالي الجبال فيكونون في منأى عن القوات المهاجمة التي كانت لا تجسر على التقدم إلى الجبال لصعوبة المنطقة .
2.الأسلوب الذي أتبعه عايض بن مرعي ، هو حرب العصابات والذي طبقه قومه بنجاح كبير ، الأمر الذي جعل القضاء عليهم أمر عسيراًُ لعدم وجود قاعدة معينه يمكن مهاجمتها والقضاء عليها .
3.جهل القوات الغازية بالمنطقة ، إذ كانت تنقصها المعلومات التي تعرفها بها إذا لم تكن هناك دراسة جغرافية واجتماعية قد أعدت لخدمة القوات المهاجمة .
4.الضرائب والغرامات الباهظة التي فرضها الجيش الذي قدم من أجل إخضاع عسير ، مما دفع القبائل إلى الإتحاد ضد العدو وقتاله حتى النصر .
وبعد الانتصار الساحق الذي حققه عايض بن مرعي على قوات محمد علي في عسير لم تقم لقوات محمد علي قائمة خلال السنوات الثلاث اللاحقة ، ولذلك فقد أستغل الأمير عايض هذه الفرصة حيث تقدم على رأس قواته إلى بيشة ، وتمكن من إخراج الحامية الموجودة بها التابعة لمحمد علي ، وضم بيشه إلى إمارة عسير وكان ذلك في عام 1252هـ ، ثم واصل عايض بن مرعي تقدمه باتجاه الحجاز ، حيث تمكن من إدخال قبائل غامد وزهران تحت طاعته ، ولم يكتف بذلك بل أخذ يكاتب بقوم وشلاوة من قبائل الحجاز عارضاً عليهم الدخول في طاعته . وكان ذلك بمثابة الاستعراض للقوة ، وتحد كبير لقوات محمد علي الموجودة في الحجاز .
وعلى الرغم أن عايض بن مرعي لم يقم بمهاجمة قوات محمد علي المتمركزة في بسل قرب الطائف ، إلا أنه ضل مسيطراً على بلاد غامد وزهران ، وكان يتردد بقواته على تلك المناطق من حين إلى آخر ليطمأن على بقائها تحت سيطرته . ولم يستمر هذا الوضع طويلاً إذ قام محمد علي بتكليف أحمد باشا باستعادة بلاد غامد وزهران من سيطرة عايض بن مرعي ، وقد أستطاع أحمد باشا استعادة بلاد غامد وزهران في أوآخر عام 1253هـ . عندها تركها أعوان الأمير عايض بن مرعي ، حيث توجه بعضهم إلى شمران بينما توجه البعض الآخر إلى بيشه ، كما أن عايض بن مرعي قد أرسل قائده محمد بن مفرح على رأس فرقه من قوات عسير إلى بلاد بني شهر لاستطلاع أخبار قوات محمد علي في بلاد غامد .
وظل عايض بن مرعي يشعر أنه يجب عليه مقاومة قوات محمد علي مهما كانت النتائج ولذلك فقد جهز جيشاً كبيراً من كل قبائل عسير وتوجه به باتجاه بلاد غامد وزهران لمواجهة قوات محمد علي المتمركزة هناك ، بهدف استعادة بلاد غامد وزهران من يد قوات محمد علي ، وكذلك بهدف انتزاع زمام المبادرة من هذه القوات ، فبعد أن كانوا هم الذين يحددون الزمان والمكان للمعركة ، رأى عايض بن مرعي أن ينهي هذه القاعدة ويقوم بمهاجمتهم في مواقعهم .
ولقد كان هجوم عايض بن مرعي على بلاد غامد وزهران أمنية أحمد باشا ، فطالما ذكر في رسائله أنه بانتظار هجوم عايض بن مرعي على بلاد غامد وزهران ، وأن لديه معلومات وافيه تؤكد التحضير لهذا الهجوم ، وقد أعد بكل دقة الخطة التي سيواجه بها هذا الهجوم .
وتمت المواجهة بين قوات محمد علي وبين أهل عسير في شهر صفر عام 1254هـ ، وحدثت معركة خاطفة اندفع فيها أهل عسير نحو قوات محمد علي المتمركزة في مواقع حصينة ، فأصلتهم القوات المدافعة ناراً حاميه ، وزاد من هول المفاجأة الخطة المحكمة التي وزع بها أحد باشا قواته ، فكلما حاولوا الدخول من جهة وجدوا فيها فرقة متمركزة ، فأدى ذلك إلى وقوع الارتباك في صفوف قوات عسير ، وعندما لم يتم لهم النصر في وقت مبكر لم يعد أمامهم سوى الفرار ، ووقعت أعداد كبيرة منهم في الأسر ، وسقطت أعداد أخرى بين قتيل وجريح .
ويذكر أن من بين الأسباب لهزيمة أهل عسير وهو غدر قبائل غامد وزهران بعسير ، ومهاجمتهم لهم من الخلف عندما ابتدأت الهزيمة تلوح في الأفق ، مما أحدث بلبلة كبيرة في صفوف العسيريين ، وقد قتل أعداد منهم على أيدي غامد وزهران ، كما سلبوا أسلحتهم وأمتعتهم أيضاً . وكان الأجدر بعايض بن مرعي أن يضع هذا العامل في الحسبان ، وأن يحاول نقل المعركة إلى مكان يأمن غدر أهله بدلاُ من أن يضع نفسه بين نارين ، أحمد باشا من الأمام وقبائل غامد وزهران من الخلف .
ولم يقتصر دور قوات محمد علي في الحجاز واليمن على المواجهة العسكرية مع عسير ، بل تعدى ذلك إلى تحريض بعض القبائل على الثورة على أمير عسير عايض بن مرعي عام 1253هـ وتشير الوثائق إلى أن ابن عطيف هذا كان يتعاون مع قوات محمد علي في الحجاز ، حيث عثرت على وثيقة فيها عهدة عسكرية لعدد من زعماء القبائل في الجزيرة العربية من بينهم أحمد عطيف ولم تشر الوثيقة إلى ماهية تلك العهدة وسببها ولكن تدل على أن قادة محمد علي في الحجاز دفعوا له الثمن الذي يمكنه من القيام بالثورة على أمير عسير آنذاك .
ولم يقف عايض بن مرعي موقف المتفرج من تلك الثورات التي قامت أثناء وجود قوات محمد علي في الحجاز واليمن ، بل قضى عليها بكل قوة ، ففي عام 1255هـ قضي أمير عسير على تمرد قبيلة ( الجهرة ) وهي من قبائل شهران ، التي قد أخلت بالأمن وسببت الكثير من المشكلات في المنطقة ، فلم يتساهل عايض بن مرعي مع هذه القبيلة ـ نظراً لظروفه الصعبة ـ وإنما قام بتأديبها وإجبارها على الخلود إلى الهدوء والسكينة .
وعلى العموم فقد استفاد عايض بن مرعي كثيراً من تجربته في بلاد غامد وزهران ، فلم يكرر مهاجمة تلك المناطق ، بل ظل يستفز أحمد باشا ، ويتظاهر باستعداده للهجوم على جيشه بين لحظة وأخرى ، وعندما حان موعد الانسحاب من عسير والحجاز ظل أحمد باشا خائفاً يترقب هجوم عايض بن مرعي . ولم يحرك عايض بن مرعي ساكناً بل ظل ينتظر ما سيسفر عنه ذلك الانسحاب . ولكن مما زاد من خوف أحمد باشا أن كثيراً من القبائل الخاضعة له عندما علمت بالانسحاب أخذوا يتوافدون على عايض بن مرعي بن مرعي ، مقدمين له فروض الطاعة والولاء بعد أن أصبحوا في مأمن من أحمد باشا وقواته . وكان أحمد باشا على علم بكل هذا ، ولكنه لا يستطيع أن يحرك ساكنا لأنه كان مشغولاً في التفكير في كيفية الانسحاب بجيشه من المنطقة بسلام .
ومن خلال إلقاء نظرة عامة على موقف عايض بن مرعي خلال وجود قوات أحمد باشا في الحجاز يتضح لنا مدى صعوبة ذلك الموقف فقد ظلت عسير عموماً في حالة استنفار طوال وجود قوات أحمد باشا في الحجاز ، وكان ذلك الاستعداد نتيجة حتمية لهجمات أحمد باشا المتلاحقة على عسير ، وعلى الرغم من أنها منيت في الغالب بالهزيمة إلا أنها قد أبقت عسير في حالة استنفار وترقب طوال وجود تلك القوات في الحجاز .
ومما لا شك فيه أن عائض بن مرعي قد تنفس الصعداء عندما بلغه خبر إنسحاب قوات محمد علي من الجزيرة ، لأن ذلك الإنسحال قد خفف عن كاهله عبئاً ثقيلاً ظل يحمله طوال وجود تلك القوات في الحجاز واليمن .
وقد أدى انسحاب قوات محمد علي من الحجاز واليمن إلى إزدياد أهمية عائض بن مرعي في عسير ، وذلك لكونه الأمير الوحيد في الحجاز واليمن الذي لم يعترف مطلقاً بسيادة محمد علي على بلاده من جهة ولم يمكن قوات محمد علي من السيطرة على عسير من جهة ثانية . فقد قضى عاماً كاملاً ويحارب هذه القوات حتى تمكن من إخراجها من عسير عام 1251هـ / 1845م .
وعندما علمت قبائل عسير الشمالية بإنسحاب قوات محمد من الجزيرة العربية أخذت ترسل وفودها إلى عايض بن مرعي مقدمة له فروض الطاعة والولاء . وفي الوقت نفسه سارع عايض بن مرعي إلى إعادة السيطرة على القبائل التي كانت خارجة عن طاعته أثناء وجود قوات محمد علي قي الحجاز . ففي عام 1256هـ أرسل عايض بن مرعي حملة لإعادة قبيلة بني عمرو إلى الخضوع لأمير عسير ، وكان على رأس تلك الحمله محمد بن مفرح المغيدي ، وقد عادت قبيلة بن عمرو إلى الطاعة صلحاً بعد مفاوضات بين قائد عايض بن مرعي وبين أعيان هذه القبيلة . وبهذا ابتدأ عائض بن مرعي في توطيد حكمه في عسير .
كما قام عام 1257هـ بتأديب قبيلة ربيعه المقاطره لإخلالها بالأمن والاستقرار ، كما قام بمساعدة أمير أبي عريش في إعادة بعض القبائل المتمردة إلى الطاعة والهدوء ، وفي عام 1258هـ قضى على الثورات التي أخلت بالأمن في (القهر) وبلاد قحطان .
وقد تمكن عايض بن مرعي إلى مد نفوذه وسيطرته حتى حدود الطائف شمالاً ، وأما جنوباً فقد مد حدوده في بلاد قحطان إلى حدود صعده ، كما قام عايض بن مرعي بمد حدوده شرقاً إلى نهاية حدود وادي تثليث حيث توجه على رأس حمله عام 1268هـ إلى بلاد تثليث فضمها إلى أمارته ونشر الأمن في ربوعها ، وقضى على الفوضى وقطع الطرقات فيها وبذلك دخلت تثليث ضمن بلاد عسير .
وقد ظل عايض بن مرعي يحكم عسير ثلاثاُ وعشرين سنه تمكن خلالها من توطيد دعائم الأمن في البلاد ، كما مد حدودها إلى قرب الطائف والليث شمالاً وإلى باقم جنوباً وتثليث شرقاً . وقد توفي رحمه الله سنة 1273هـ .
الحلقة الخامسة
يعد الأمير محمد بن عائض الذي حكم عسير من 1273هـ - 1289هـ أول أمير عسيري تؤول إليه الإمارة بالوراثة من والده . حيث كانت قبل ذلك تؤول إلى الأرشد من القرابة .
ما أن تولى محمد بن عائض زمام الحكم في عسير حتى قرر أن يتوجه إلى أبي عريش لإقرار الأمور بها ، وكان ذلك في عام 1273هـ . وقد تمكن من ذلك بعد أن هدم حصون أبو عريش ، ووزع المسؤوليات على عدد من الأشراف الذين وثق في إخلاصهم . حيث عين الشريف الحسن بن محمد عاملاً له في المخلاف السليماني .
وفي عام 1274هـ توجه محمد بن عائض لتفقد أحوال أمارته في الشمال ، حيث وصل إلى بيشة ومكث بها فترة ثم توجه إلى بلقرن وغامد وزهران وذلك لإصلاح شؤون تلك الجهات وتنظيمها ، حيث عين عبد الله بن علي بن مجثل قائداً لسرية ترابط ببلاد غامد وزهران .
ولم يكد محمد بن عائض يصل السراة مطمئناً إلى استقرار أبو عريش وبلاد غامد وزهران ، حتى وصل إلى نجران الحسن بن الحسين مستنجداً بقبائل يام ضد عامل ابن عائض الشريف الحسن بن محمد . الأمر الذي جعل محمد بن عائض يرسل خطاباً إلى الشريف الحسن بن محمد ينصحه بالمقاومة وعدم الاستسلام والرفع له في حالة نزول يام إلى تهامة ليمده بالقوة والنجدة لتقضي عليهم .
ولكن نصائح محمد بن عائض لم تلقى آذاناً صاغية لدى الشريف الحسن بن محمد . وبلغ به الأمر أن عقد معهم اجتماعاً سرياً وبعدها استسلم الحسن بن محمد ووافق على الدخول في طاعة الحسين بن الحسن ، كما تعهد بإخراج الحامية العسيرية من قلعة ( دار النصر ) ، وقد تم له ذلك بعد مفاوضات طويلة مع سعيد بن مرضي أمير العسيرين المرابطين بدار النصر .
ويظهر أن جلياً أن أشراف المخلاف السليماني لم يكونون يميلون إلى حكم محمد بن عائض ، وأنما كانوا يرون في ذلك حملاً ثقيلاً يعملون على التخلص منه ، بكل الوسائل حتى ولو استعانوا بألد أعدائهم وهم يام . والدليل على ذلك هو أن الحسن بن محمد حاكم أبي عريش من قبل محمد بن عائض وافق على التعاون مع يام والدخول في طاعة الحسن بن الحسين مع تعهده بإخراج الحامية العسيرية من حصون المدينة دون أن يطلب منهم القتال إلى جانبه .
شعر محمد بن عائض أن الموقف قد يخرج من يده تماما ، فقام بحمله جديدة على المخلاف السليماني ، وتمكن من حصار أبي عريش حتى تم الصلح على أن يسلم الحسن بن الحسين مبالغ سنوية لأمير عسير مع الاعتراف بالتبعية الاسمية له ووقع الاتفاق في شهر ذو الحجة من عام 1273هـ .
وفي عام 1275هـ دبر الحسن بن محمد مؤامرة لقتل الحسن بن الحسين وقام بتنفيذ المؤامرة بعض عبيد الحسن بن محمد وبذلك عاد إلى تولي إمارة أبي عريش .
لم يرضى محمد بن عائض بهذا التصرف لأنه لم يكن راضياً عنه لتآمره مع الحسن بن حسين ويام أيام إمارته الأولى .
فجمع الجنود وتوجه إلى تهامة المخلاف السليماني وتمكن الأمير محمد بن عائض من الاستيلاء على أبي عريش بالقوة بعد أن هرب الأمير الحسن بن محمد تحت جنح الظلام إلى نجران واستقر بها حتى عام 1280هـ حيث قتل على يد قبائل يام .
ولم يكتف الأمير محمد بن عائض بالاستيلاء على المخلاف السليماني ، بل أنه تحرش بالعثمانيين في المواني الساحلية فوصل قرب الحديدة ثم عرج إلى جازان فاستولى عليها وجعل عليها عاملاً . ثم رجع إلى أبو عريش وفي هذه المرة لم يعين واحد من الأشراف أميراً على أبو عريش بل عين الشيخ أحمد بن حسن الحازمي عاملاً عليها والذي ظل مخلصاً لأمير عسير فترة من الزمن .
وقد ذكرت بعض المصادر العثمانية عن هذه الواقعة مانصه " وفي بداية 1280هـ قام أمير عسير الأمير محمد بن عائض بالهجوم على تهامة اليمن حباً في توسيع ملكة ، وخلال هجماته على المناطق التابعة لقضاء ( لحية ) استولى على قلعة مرفأ (جازان ) وهدم ثلاثة عشر برجا بالإضافة إلى المنازل والخانات التي كان قد أقامها الشرفاء ذوي الخيرات في الأزمنة القديمة في أبو عريش " .
ومع هذا فإنه لم يهن على العثمانيين استيلاء أمير عسير على ميناء جازان إذ سرعان ما بعثوا قوات عثمانية تمكنت من إخراج الحامية العسيرية من قلعتها وعندما حاول عامل محمد بن عائض على المخلاف السليماني التصدي لهم ، هزم هزيمة منكرة .
ومع أن النجدات وصلت من عسير إلا أن تلك القوات لم تشتبك مع القوات العثمانية ولم تحاول استعادة ميناء جازان بل أكتفت بالمحافظة على بقية المناطق الداخلية في المخلاف السليماني .
وبعد وفاة عامل محمد بن عائض في المخلاف السليماني تولى بعده أخوه محمد حسن الحازمي ، الذي توفي هو الآخر في ظروف غامضة ، وفي نفس الوقت تم الاتفاق بين الدولة العثمانية وبين الأمير محمد بن عائض على أن يتنازل ابن عائض عن المناطق الواقعة إلى الجنوب من ضمد بما فيها أبو عريش ، بينما بقي لمحمد بن عائض صبيا والمخلاف والمناطق الواقعة إلى الشمال منها . ثم في عام 1281هـ أضطر الأمير محمد بن عائض إلى التنازل عن المخلاف السليماني درءاً للصدام مع العثمانيين .
ويعتبر هذا العام نهاية حكم آل عائض للمخلاف السليماني حتى عام 1287هـ بعدها قرر الهجوم على المخلاف السليماني وأخرج الحاميات العثمانية منها وواصل في هجومه إلى السواحل اليمينية وبالتحديد إلى الحديدة ، وحاصر حاميتها العثمانية وعندما أوشك على اقتحام أسوارها والاستيلاء عليها بلغه توجه حملات عثمانية إلى عسير ، مما أجبره على فك الحصار عن الحديدة ليعود مسرعاً إلى عسير تاركاً المخلاف السليماني والسواحل اليمانية ، على أمل أن يتمكن من إعادة الكرة بعد صد الهجوم الكبير على بلادة .
ومهما يكن من شيء فقد أدى الإصرار من الأمير محمد بن عائض على الاستيلاء على جازان والسيطرة على المخلاف السليماني وتهامة اليمن إلى اهتمام الدولة العثمانية بالأمر أشد اهتمام . وعلى الرغم من تودد محمد بن عائض للخديوية في مصر وتبادل الرسائل معها إلا أن ذلك لم يحل دون تعاون الخديوية مع الدولة العثمانية ، فقد اضطر الباب العالي إلى أن يلجأ إلى والي مصر إسماعيل للاستعانة به في إخماد ثورة العسيريين ضد العثمانيين في منطقة عسير وما جاورها ، فما كان من والي مصر إلا تلبية طلب السلطان العثماني .
وبناءً على هذه الأحداث تحرّك من مصر إلى جدة ثلاثة طوابير مشاة ، وعدد كاف من المدافع تحت قيادة الميرالاي إسماعيل بك أحد أمراء مصر ، وكانت القرارات التي اتخذت بشأن مهمة هذه القوات أن ترسل إلى القنفذة وأن يستمر القتال حتى يتم الاستيلاء على ميناء جازان ، وكانت تلك القرارات تحظى بتأييد السلطان العثماني نفسه .
وعلى الرغم من توجه تلك القوات إلى جده إلا أن مسألة مهاجمة العسيريين كانت لا تزال مجال أخذ ورد ، حيث وصل كتاب إلى قائد القوات المصرية يأمره بالإنتظار هذا نصه " قد علمنا مما أوضحتموه في مكاتبتكم المؤرخة في 9 صفر 1282هـ الوارد من عدة أيام أنكم غادرتم مكة إلى جدة بسبب تقرر ارسال قوة عسكرية براً وبحراً على العسيريين فنبلغكم بأن الباب العالي ابلغنا لوجودنا في استانبول أن قراراً جديداً صدر بإرجاء مسألة إرسال قوة عسكرية إلى حدود عسير في الوقت الحاضر ، وعلى ذلك فأننا نأمركم بصرف النظر عن السفر ولإقامة مع العسكر الموجودين معكم في جدة أو في مكة في الجهات التي يجود هواؤها ".
ولم تمكث تلك القوات طويلاً في الحجاز إذ سرعان ما وصلتها الأوامر بالتوجه إلى القنفذة في طريقها لملاقات العسيرين
الحلقه السادسه
يبدو أن الأمير محمد بن عائض لم ينو القيام بمواجهة مع تلك القوات مما دفع شريف مكة إلى عدم تصديق ما يحدث وظن أن في الأمر خدعة ، فبعث يطلب إمدادات وقوات إضافية .
وعلى الرغم من إرسال الجناب العالي في مصر تلك القوات إلى الحجاز امتثالاُ لأمر الباب العالي ، إلا أن وجودها كان بمثابة الضغط على أمير عسير ليرضخ للأوامر والخضوع للدولة العثمانية .
ولقد تحقق للحكومة المصرية ما كانت ترجوه بعدم الاشتباك مع أمير عسير ، والوصول إلى حل المشكلة عن طريق التفاوض وبذلك تقرر عودة الجنود المصريين إلى بلادهم .
كما بعث خديوي الأقطار المصرية إلى محمد بن عائض رسالة وضح فيها مدى إعزازه وتقديره لمحمد بن عائض وبين فيها أن سبب قرار الدولة العثمانية بمهاجمته هو ما قيل عن ابن عائض ، من عدم طاعته للدولة العثمانية وميله للاستقلال ، كما أنه وعده بمنحه لقب أمير الأمراء إن اثبت الطاعة للدولة العثمانية .
ومن هنا نستنتج حقيقتين هامتين :
الأولى : أن إصرار الدولة العثمانية على القضاء على إمارة آل عائض في عسير إنما كانت بسبب الوشاة والحساد الذين كانوا يضخمون خطر هذه الإمارة الناشئة على الدولة العثمانية .. من أمثال أشراف الحجاز .
الثانية : احتفاظ الخديوية في مصر بعلاقة قوية مع أمير عسير بدليل نجاح سفارتها لدى أمير عسير في اعترافه الأسمى بسلطة الدولة العثمانية ، أضف إلى ذلك إصرار خديوي مصر على إعادة سفيرة مرة ثانية بحجة السلام على ابن عائض ومشافهته بشأن المودة الحقيقية بينه وبين أمير عسير .
ونتيجة لكثرة الاضطرابات والدسائس التي كانت تحاك ضد محمد بن عائض من قبل العثمانيين وأشراف الحجاز والمخلاف السليماني أضطر التنازل عن معظم المخلاف السليماني وساحل اليمن وسلمها إلى الدولة العثمانية وذلك بهدف تجنب نقمتها عليه .
وعلى الرغم من تمسك الأمير الحرفي بالاتفاقات التي كانت بينه وبين الدولة العثمانية ، فأن الشكاوي والوشايات ظلت تصل تباعاً إلى الباب العالي وإلى الخديوي في مصر تتهم محمد بن عائض بتعدي الحدود والخروج على طاعة الدولة العثمانية ، فكتب إليه خديوي مصر رسالة مؤثرة ينصحه فيها بعدم الميل إلى الحرب والبقاء تحت طاعة الدولة العثمانية
وفي آخر الرسالة يشدد الخديوي على محمد بن عائض بأنه يجب الالتزام بالعهود والمواثيق وإلا فأنه لن يحصل له إلا الندم . وفي ذلك تأكيد على غضب الخديوية من محمد بن عائض لأن الرسالة تتضمن عتاباً ، وفي بعض فقراتها تحذير وتهديد ، والجدير بالذكر أن الخديوية هي التي رعت الاتفاقية التي تمت بين أمير عسير محمد بن عائض وبين الدولة العثمانية .
وفي هذه الأثناء أحاط العثمانيون بإمارة عسير من الشمال والجنوب ، وأخذوا يتحينون الفرصة المناسبة لسحق تلك الإمارة العربية ، ومما ساعدهم على ذلك أن الأمير لم يكن في مرونة والده مما جعله يشغل نفسه بمحاربة العثمانيون في تهامة بصورة استفزتهم ودفعتهم إلى القضاء على أمارته .
واستمرت الشكايات تتوالي من أشراف أبو عريش ومن أشراف الحجاز لسبب ولغيره بهدف إثارة الدولة العثمانية على محمد بن عائض .
هجوم الأمير محمد بن عائض على الحديدة
يبدو أن الأمير محمد بن عائض أدرك أنه لن يستقيم له الحال ما بقي العثمانيون ومن يساعدهم في المخلاف السليماني ، لذا فقد قرر إخراجهم من المناطق التي ينزلون بها وجمع جنوداً لذلك من عسير وقحطان وشهران وبنو شهر وغامد وزهران ، وقرر تنفيذ ما عزم عليه وتوجه إلى المخلاف السليماني لإخراج العثمانيون من المنطقة نهائياً .
وفي الواقع أن ما قام به محمد بن عائض يعتبر مغامرة عسكرية خاطئة لأنه كان في موقف صعب من ناحية التسليح . ومهما يكن من شيء فقد كان هجوم محمد بن عائض على الحديدة مفاجأة كبيرة لكثير من المؤرخين ، فلم يكن لها تعليلاً مقنعاً لدى أي مؤرخ . إلا أن ضيق محمد بن عائض بالعثمانيين وتواجدهم في المخلاف السليماني قد يكون هو السبب .
وبعد أن أكمل محمد بن عائض استعداداته العسكرية لتنفيذ ما عزم عليه توجه بقواته إلى المخلاف السليماني فقصد أبو عريش وقام بإخراج الحامية الموجودة في قلعتها واستولى عليها . ثم ضرب الحصار حول قلعة جازان حتى سقطت في يد قواته ، ثم وصل إلى باجل واستمال قبائلها وعلى رأسهم شيخهم ثم قام بحصار الحديدة على الفور وتمكن من إكمال تر
والشكر الجزيل لأخي الحبيب كاتب من الوادي من منتديات عسير الذي سمح لي بأن أنشر هذه السلسله بالإختصار الوافي الذي قام به كمجهود شخصي دون أن يخل بالوقائع الهامه وما حدث فيها من معارك طاحنه .. وبإذن الله ستكون الصوره واضحه للجميع
الحلقة الأولى
في عام 1229هـ نزلت قوات محمد علي في ميناء القنفذة وعاثت فيها فساداً تقطع رؤوس أهلها ثم تقطع آذانهم وترسلها إلى مصر دليلاً على انتصارها في عسير ، فتصدى لها طامي بن شعيب ومعه قبائل عسير ، فقام طامي في بداية الأمر بالاستيلاء على آبار الماء ، وعندما حاولت قوات محمد علي الوصول إليها بالقوة ، حدثت معركة فاصلة انتهت بهزيمة قوات محمد علي ولم ينج منهم إلا قليل ، حاول محمد علي تلافي تلك الهزيمة فأرسل لنجدتهم فرقة من الخيالة ولكن تلك الفرقة هزمت كذلك . (1)
وقد أثرت هذه الهزيمة على موقف محمد علي في الحجاز مما جعله بحاجة إلى إعادة حساباته بالنسبة لتصفية السعوديين فقام بطلب الإمدادات من مصر ، كما قام بإجراء مصالحة عامة مع أهالي الحجاز ومحالفات مع قبائلها . (2)
ولم تكن الهزيمة السابقة في القنفذة كافية لإقناع محمد علي بأنه لا جدوى من تلك المحاولات لضرب العسيرين وإبعادهم عن مشاركة أخوانهم وأمرائهم في نجد ، فقامت قوات محمد علي بالاستيلاء على القنفذة عن طريق قوة جاءت محمولة عن طريق البحر ، ولكن طامي بن شعيب كان لها بالمرصاد حيث أشتبك معها وهزمها هزيمة شنيعة ، حيث عادت فلولها إلى جدة بعد أن تمكنت قبائل عسير من استعادة القنفذة . (3)
محمد علي باشا
ونلاحظ هنا توالي الحملات التي قام بها محمد علي للاستيلاء على القنفذة ، ولم تكن محاولات محمد علي هذه بهدف السيطرة الجزئية على المنطقة ، وإنما كان الهدف منها القضاء على إمارة آل المتحمي التابعة لآل سعود ، والتي كان أميرها طامي بن شعيب من أشد أعداء محمد علي في الحجاز ، فلقد تصدى طامي لقوات محمد علي مرات عديدة ، ومما لا شك فيه أن محمد علي قرر التخلص منه لكي يتفرغ لحرب السعوديين في نجد بعد أن يصفي حساباته في مناطق الحجاز وعسير .
وبعد أن تمكنت قوات عسير بقيادة طامي بن شعيب من القضاء على محاولات قوات محمد علي في بسط نفوذها على مناطق الساحل ، توجه طامي بن شعيب على رأس عشرة آلاف جندي من عسير السراة ورجال ألمع إلى بلاد غامد وزهران ، لمواجهة حركة جديدة قام بها محمد علي على طريق الشمال . وفي الطريق التف حوله عدد كبير من القبائل ، حيث جرت معركة كبيرة في بلاد زهران ، أسفرت عن هزيمة قوات محمد علي وانسحابها من الحجاز . (4)
وبعد هذه المعركة اشترك طامي بن شعيب على رأس قبائل عسير في موقعة البسل ، تلك الموقعة التي دارت رحاها بين القوات السعودية بقيادة فيصل بن سعود وبين قوات محمد علي ، وقد اجتمع فيها للقوات السعودية أكثر من ثلاثين ألف رجل ، وكادت تسفر عن نصر مؤزر للسعوديين لولا وصول نجدات جديدة كانت بقيادة محمد علي نفسه ، مما أدى إلى تغير الموقف تجاه قوات محمد علي ، حين تأثرت بعض جبهات الجيش السعودي – يذكر ابن بشر أن سبب الهزيمة تفكك في جهات غامد وزهران – ولم يلبث ذلك الجيش الكبير أن تشتت شمله وهزم ، واتجه كل قوم إلى بلادهم ليظموا الدفاع عنها ضد أي هجوم مرتقب .
وقد دلت الهزيمة القاسية التي تلقاها الجيش السعودي الكبير ، على أن خللاً حدث في صفوف القوات السعودية ، مما أدى إلى عدم خوضها معركة حقيقية بنفس القوة التي كانت تقاتل بها في المعارك . ويعود ذلك إلى عدم التنسيق في الجبهة السعودية ، وبالتالي إلى عدم الانضباط العسكري بين صفوفها ، إضافة إلى ضعف التدريب والتسليح ، ودخولها المعركة بشكل ارتجالي مما أدى إلى وقوع الهزيمة . وعلى كل فقد كانت معركة بسل من أهم المعارك التي خاضتها الدولة السعودية ضد قوات محمد علي ، فبعدها تمكن محمد علي من إحراز انتصارات سهله ومتوالية . لم يحاول محمد علي التوجه صوب الشرق باتجاه الدرعية عاصمة الدولة السعودية ، بل توجه إلى عسير لمتابعة قوات طامي بن شعيب ، ويعود ذلك إلى عدة أسباب من أهما :
1. بعد معركة بسل وصلت إلى محمد علي أوامر من الباب العالي تحثه على قتال القبائل اليمنية الخاضعة لآل سعود ، ليسهل عليه بعد ذلك مهاجمة الدرعية وهو مأمون الظهر . (5)
2. كان محمد علي يدرك قوة طامي بن شعيب وخطورته على مؤخرة جيشه ، بخاصة بعد الهزائم التي ألحقها طامي بجيشه في القنفذة وبلاد زهران ، ومن هنا فأن محمد علي كان يحس بخطورة هذا القائد وقواته ، فتعمد أن يتكبد الصعاب وأن يتوجه إلى عسير لتصفية حسابه مع طامي بن شعيب وقواته .
ولم تكن مهمة محمد علي هذه المرة سهلة في عسير ، فقد واجه عدداً من القوى المعارضة كما أن القبائل التي قاتلته في تربة لن تتهاون عند مواجهته عندما تواجه قواته بلادها ، وقد مر في طريقة إلى عسير بعدد من المدن والقرى مثل : بيشة وتباله ورنية وخميس مشيط ، حيث استسلمت جميعاً . وتوجه بعد ذلك إلى بلاد عسير فلم يسالمه إلا قبيلة ربيعه ورفيدة وهي قبيلة طامي نفسه ، وظل طامي صامداً مع بقية قبائل عسير السراة ورجال ألمع وبالحمر وبالسمر ، وبعد قتال شديد ومعارك ضارية انتصر محمد علي على قوات طامي بعد أن دمر معظم حصونه وانسحب طامي إلى المخلاف السليماني ، فاستدعاه الحسن بن خالد الحازمي بحجة إيوائه فركن إليه وصدًق وعوده ، ولكن الحسن بن خالد كان من أعداء طامي فقام بتسليمه إلى قوات محمد علي حيث قاموا بإرساله إلى مصر . (6)
ويذكر الجبرتي (7) أنه عند وصول طامي بن شعيب إلى مصر تم التشهير به في ميادين القاهرة وأزقتها على مرأى من الناس ، ومما قاله الجبرتي في وصف وصوله إلى القاهرة : " وبعد مرورهم دخلوا بطامي المذكور وراكب على هجين ، وفي رقبته الحديد والجنزير مربوط في رقبة الهجين ، وصورته رجل شهم عظيم اللحية ، وهو لا بس عباءة عبدانية ويقرأ وهو راكب " .
وتختلف المصادر التاريخية في المكان الذي تم فيه تنفيذ حكم الإعدام بطامي بن شعيب ، فيذكر ابن بشر أنه قد أعدم في القاهرة . بينما يذكر آخرون (8) أنه أعدم في الأستانة . والرأي الثاني أرجح لأن أحكام الإعدام التي نفذت في أقطاب الدولة السعودية تمت كلها في الأستانة عاصمة العثمانيين ، ولم يتم أي منها في مصر ، فلم تكن مصر إلا محطة عبور ، حيث يرسل الأسرى بعد ذلك إلى عاصمة الدولة العثمانية ليتم البت في أمرهم هناك .
ومن خلال المعارك التي خاضها الأمير طامي بن شعيب ومدى ما بذله من جهد عسكري وحنكة قيادية فإنه يعد بحق من أقوى قواد الدولة السعودية الأولى
الحلقة الثانية
وعلى الرغم من قضاء محمد علي باشا على إمارة طامي بن شعيب ، إلا أنه لم يتمكن من القضاء على القبائل العسيرية المناوئة لحكمة في المنطقة لأن ثورتهم لم تكن مرتبطة بشخص واحد مهما كانت قوته وشجاعته ، ولكن الأمير نفسه هو الذي يكسب المعارك بفضل هؤلاء الأبطال من أبناء عسير الأوفياء . ولذلك فإنه لم يكد محمد علي يغادر عسير حتى قام العسيريون بثورة جديدة ، حيث قاموا بتولية أمير آخر من آل المتحمي بقي في عسير ، محمد بن احمد المتحمي ، وقد تولى الأمر في عسير وتمكن من إخراج الحامية التي تركها محمد علي في عسير ، وقام بإعادة سيطرته على بعض القبائل التي حاولت الخروج على سلطته .
وقد واجه محمد بن أحمد المتحمي صعوبات جمّة في إعادة سيطرته ، فقد تكالبت عليه القوى الداخلية والخارجية ، ففي أول ولايته اصطدم بحمود أبو مسمار في أبي عريش وقد انهزم في تلك المعركة . ولم يلبث طويلاً أن جمع شتات قواته حتى هزم على يد حمله عثمانية أرسلت لاسترداد عسير ، وقد حاول جاهداً جمع قبائل عسير لإخراج القوات العثمانية مرة أخرى ، ولكنهم تخلوا عنه في أحلك الظروف فهزم من الحامية الموجودة في طبب .
وأمام المصاعب التي واجهها محمد بن أحمد المتحمي اضطر إلى التعاون مع حمود أبو مسمار أمير المخلاف السليماني بهدف إخراج العثمانيين من عسير . وكان يهدف من هذا التعاون مع حمود أبو مسمار إضعاف العثمانيين عن طريق ضرب أحدهما بالآخر ، وقد لبى أبو مسمار طلب محمد بن أحمد المتحمي هذا ، وتوجه على رأس قواته وقوات عسير إلى عسير واستولى عليها ، وقام بطرد الحامية العثمانية منها وقد تصدى لعدة محاولات من قبل محمد علي لاستردادها حتى توفي عام 1233هـ وكانت وفاته في بلاد عسير .
وبعد وفاة أبو مسمار بقيت جيوشه تحت قيادة ابنه أحمد بن حمود والحسن بن خالد الحازمي ، وظل محمد بن أحمد المتحمي متحالفاً مع هذه القوات بهدف الوقوف في وجهة قوات محمد علي ، حتى وجهت إليهم جملة بقيادة ( خليل آغا ) ، وتمكنت هذه الحملة من أسر محمد بن أحمد المتحمي الموجود في أبي عريش وسفرته إلى مصر ، كما أجبرته على أن يكتب إلى عمالة وحامياته في أرجاء البلاد يطلب منهم التسليم وذلك عام 1234هـ وكانت هذه الحملة عن طريق تهامة .
ثم جاءت حملة أخرى عن طريق السراة بقيادة محمد بن عون وتمكنت من هزيمة محمد بن أحمد المتحمي ، الذي كان على رأس قبائل عسير في مواجهتها ، وأخذته هو وأبنه مداوي ، حيث أرسلا إلى القاهرة أسيرين .
( راوية عثمان بشر ) .
بعد استشهاد محمد بن أحمد المتحمي توالت غارات أحمد باشا والي محمد علي على الحجاز بمساعدة شريف مكة محمد بن عون ، واستمرت أحوال عسير في فوضى واضطراب مابين فتن قبلية وحروب متلاحقة من جانب قوات محمد علي في الحجاز ، وكان محمد بن عون يعتبر نفسه أميراً على الحجاز وعسير ، فقام بوضع حامية في طبب ، وعين أميراً من قبله على عسير وهو : الشريف هزاع .
وفي عام 1238هـ / 1823م قرر شريف مكة أن يقوم بغزوة لوادي الدواسر ، وقد جند لهذه الغزوة رجال القبائل ومن جملتهم قبائل عسير ، وكان على رأس قبائل عسير الأمير (سعيد بن مسلط) ، ولكنه تأخر وهو وبعض قبائل عسير السراة ورجال ألمع ، وعندما لحق بشريف مكة الحق به بعض الإهانه فرجع ابن مسلط غاضباً ومعه قبائل عسير ، وهجم على حامية الشريف في طبب فطردهم منها وأحرق المركز الرئيسي في طبب ، وقام بالسيطرة على عسير .
ولم تكن ثورة عسير على قوات محمد علي نزوة غضب أدت إلى الاستقلال بل إن الوثائق تشير إلى أن علي بن مجثل كان يراسل الكثير من الأعيان والأصدقاء في الحجاز والمخلاف السليماني ، شارحاً لهم موقفه من قوات محمد علي ، واستقلاله عنها ، واقتطع هنا نبذه من تلك الوثيقة فنقول : " سلام الله الأتم . . . وبعد وصلت خطوطك وفهمنا مضمون الجميع ، وتعلم أن القومة لله لا لغرض من الأغراض ، ولا يخفاك مع وصول خطك الأول ، أنا قد جوّبنا عليك ، بما في خواطرنا بمحضر كبار عسير وشهران ورفيدة ، وبني الأسمر وبني الأحمر ، وبني شهر وبلقرن وبني عمرو ، ومن حضر من أابر عبيدة ، وسنحان ، ومن حضر من دراعية ، ورجال همدان ، وصدرنا الخط يواجهك في القنفذة ، وأما الباشا فلا نرى الخط عنده وجه , لأنا ما نعلم له عندنا من المطالب شيء ، فأن أراد العافية والسكون ، فيخلينا ويخلي سبيلنا وأن يدور الفتن / ومراده يوازينا عند طوارفنا . فنستعين عليه بقاصم الجبابرة "
وتؤكد لنا الوثيقة السابقة أن الثورة كانت قد تمت عام 1238هـ / 1823م ، وأن قبائل عسير قاطبة التفت حول أمراء عسير بهدف إنهاء إنها وجود قوات محمد علي في عسير ، كما تؤكد الوثيقة أنه لا يوجد أي سبيل للتفاهم مع أحمد باشا ما لم يكف عن محاولاته الرامية إلى التدخل في شؤون عسير الداخلية .
ولم يقف أشراف الحجاز ومن ورائهم محمد علي مكتوفي الأيدي أمام خروج عسير عن تبعيتها للحجاز ، فقد وردت الأوامر إلى ( أحمد باشا يكن ) في الحجاز بضرورة القيام برد مناسب على العسيرين وأوصت الوثيقة بتحري الدقة وضرورة التنسيق مع أشراف الحجاز قبل القيام بهذه العملية .
وقد توجهت حملة إلى عسير عام 1238هـ وقد تمكنت قبائل عسير من هزيمة تلك الحملة بعد معارك عنيفة ، وأسفرت تلك المعارك عن سقوط الشريف راجح قتيلاً في المعركة ، وانسحاب القوات المهاجمة من عسير .
من الملاحظ أن هذه الثورة لم تقتصر على قبائل المحيطة بأبها بل شملت كل قبائل عسير ، حيث ثارت قبائل بيشة وقاموا بمحاصرة الحامية الموجودة فيها ، وتعذر إيصال الذخيرة إلى المحاصرين بسبب ثورة غامد وزهران وشمران وبلقرن ، وكل هذه القبائل تسيطر على الطريق الممتد بين بيشة والحجاز وقد اضطر محمد علي إلى إرسال الأوامر لوالي جدة باتخاذ السبل الكفيلة بإنهاء حالة الحصار على قواته الموجودة في بيشة .
ومما يدل على أن ثورة عسير كانت ثورة شعبية ، هو كون أهالي بيشة بعثوا رسائل إلى القبائل المجاورة لهم يحرضونهم على الثورة مما دفع جميع القبائل من غامد وزهران شمالاً حتى بلقرن ورنية ونواحيها، إلى القيام بتلك الثورة استجابة لنداء إخوانهم في بيشة .
ولم تمض فترة بسيطة حتى قام محمد علي بتجهيز حملة جديدة توجهت إلى عسير بهدف إخضاعها مرة أخرى لنفوذ محمد علي ، ونظراً لضخامة تلك الحملة فقد قرر سعيد بن مسلط اتخاذ حرب عصابات وسيلة لمواجهتها ، وقد تمكنت تلك الحملة من التوغل داخل عسير واستولت على طبب والسقا ، ولكن عسير لم تدخل في الطاعة ، لأن رجال القبائل لم يلقوا السلاح بل ظلوا يواصلون المقاومة لقوات أحمد باشا المهاجمة . وقد أدت حرب العصابات التي اتبعها العسيريون إلى إلحاق أفدح الأضرار بقوات محمد علي ، وتأزم الموقف على قوات محمد علي نتيجة موت الجمال ونفذ الذخيرة ، مع استمرار المقاومة في عسير ضد تلك القوات .
وتفيد الوثائق أن الموقف بين عسير وبين قوات محمد علي ظل موقفاً حربياً متفجراً ، فرغم قوة الحملات التي أرسلها محمد علي إلى عسير إلا أنها اصطدمت برجال القبائل الأشداء الذين مارسوا ضدها حرباً شرسة ، معتمدين على طبيعة المنطقة الجبلية ، وعلى حرية الحركة لكونهم يتبعون أسلوب حرب العصابات ، وذلك الأسلوب الذي أدى إلى إلحاق أفدح الأضرار بقوات محمد علي المهاجمة لعسير .
وبعد أن تمكن أحمد باشا من تحقيق انتصار جزئي في عسير حاول أن يقوم بجمع أسلحة رجال القبائل هناك ، بهدف القضاء على وسيلة المقاومة التي تمكنهم من مهاجمة قواته المهاجمة ، ولكي يفرض سيطرته الكاملة على عسير ، ولكن أهل عسير رفضوا هذا الابتزال ، وأخبروه أن الموت أهون عليهم من تسليم أسلحتهم ثم انفضوا حوله ، ومما ورد في الوثيقة : (( فلا يقتضى بعد الآن أن يوجد بيدكم بنادق ، فلتذهبوا بأدبكم وشرفكم لتسلموها ، وعندما فهم كل منهم هذه الكلمات الشديدة أجابوا جميعهم نرضى بقتلنا ولا نعطي بنادقنا )) .
ولم يكن أهل عسير من السذاجة بدرجة تجعلهم يركنون إلى وعود أحمد باشا ، وإنما كانوا يتحينون الفرص المناسبة للانقضاض على قوات أحمد باشا ، وقد واتتهم الفرصة عندما أنسحب أحمد باشا إلى الحجاز وأبقى محمد بن عون على رأس حامية في عسير ولكن قبائل عسير قامت بحصار محمد بن عون في طبب وأسفر الحصار عن انسحاب محمد بن عون من عسير مع جميع قوات محمد علي هناك ، مقابل توقيعه على اتفاق يتنازل بموجبة عن منطقة عسير ، ويعترف فيها بحدود معلومة لعسير تمتد من بارق شمالاً حتى صبيا والشقيق جنوباً .
ولقد كان العسيريون حريصون على قيام الصلح بينهم وبين أشراف الحجاز ومحمد علي وفي سبيل ذلك الصلح قاموا بإرسال الهدايا إلى أحمد باشا يكن وإلى محمد بن عون ، وكانت تلك الهدايا عبارة عن ثلاث خيول ومعها رسائل ودية تتعلق بالاتفاقية المبرمة بين الجانبين . وذلك دليل على النوايا الحسنة لأهل عسير ، ولكن ومع وجود هذه النوايا الحسنة ، فلقد كانوا متيقظين لأية محاولة للإخلال بتلك الإتفاقية ، وما ورد في الوثيقة : (( فإن كان الصلح استتم على مضمون ما راح عليه الربع فعرفونا وإن كنتم خالفتم عنه فعرفونا والنقا بقا )) .
ويظهر أن القيادة في عسير كانت خلال هذه الفترة شبة قيادة جماعية ، بدليل أن تلك الرسالة المرسلة إلى محمد بن عون موقعه من سعيد بن مسلط وعلي بن مجثل ، ولا شك أن أهل عسير كانوا عبارة عن ثوار على الدولة العثمانية ، ولذلك فإنه لم يكن مهما لديهم من سيكون الأمير إنما كان الأهم هو أن تنجح الثورة أولاً .
ولم يلبث الموقف أن أنفجر بين عسير وقوات محمد علي في الحجاز ويعود ذلك إلى الأسباب الآتية :
1.عدم موافقة سعيد بن مسلط على إحضار مشائخ عسير إلى مكة لمقابلة أحمد باشا ، وكان أحمد باشا يهدف إلى استدراج أولئك المشائخ إلى جانبه ، في حين كان كلن سعيد بن مسلط يخشى غدر أحمد باشا بأولئك المشائخ .
2. وصلت الأخبار إلى أحمد باشا بأن أهل عسير يقومون بإجراء تحصينات واستعدادات حربية تحسباً لأي هجوم تشنه قوات محمد علي في الحجاز إضافة إلى قيام سعيد بن مسلط بإرسال كتاب إلى تركي بن عبد الله آل سعود ، فرد عليه تركي بأن أرسل شيخاً من كبار مشائخ آل سعود إلى عسير ، مما أثار أحمد باشا حيث قال : " وأنه بعث خفيه خطاباً لتركي بن عبد الله من جماعة آل سعود فأرسل هو إليه شيخاً من المشائخ النبهاء المرعى الخواطر في أيام السعود ، وأنه إن كان يتظاهر بمظهر الطاعة لكن مراده التمكن من تقوية نفسه ... فحرر ورقة إلى الدويش فتلطف فيها معه ليغزو جماعة تركي بن عبد الله
وهكذا أتخذ أحمد باشا اتصال أهالي عسير بأمرائهم السابقين ، وقيامهم بتحصين بلادهم ذريعة لطلب الإمدادات من محمد علي حتى يقوم بهجوم جديد على عسير ، ناكثا بذلك العهود والمواثيق التي وقعها مع العسيرين قبل ذلك .
الحلقة الثالثة
وفي سبيل تنفيذ مخطط أحمد باشا شن على عسير هجوماً من اتجاهين : فالهجوم الأول عن طريق القنفذة والهجوم الثاني عن طريق الحجاز وذلك بهدف تشتيت قوات عسير .
وأمام إصرار أحمد باشا على مهاجمة عسير مرة أخرى أنقسم أهالي عسير إلى فريقين .
فريق أنه يرى أنه لا مناص من الصمود والوقوف في وجهة القوات المهاجمة بكل شجاعة وثبات ، وفريق آخر يرى أن إعلان الخضوع والموافقة على السلام مع أحمد باشا يجنب البلاد ويلات الحروب وأضرارها.
ولكن في النهاية تغلب الجانب المتشدد وقرر أهل عسير مواصلة التصدي لقوات محمد علي ، وتوجهت حملة كبيرة إلى عسير ، وتمكنت من التوغل داخل عسير حتى وصلت إلى مناظر ، وقام كثير من قبائل عسير بطلب الأمان من أحمد باشا ، أما ابن مجثل و سعيد بن مسلط فقد طلبا الأمان على أساس الاستقلال رجال ألمع تحت حكمهم فقط ، ولكن أحمد باشا رفض هذا العرض ظنا منه أنه سيتمكن من تحطيم ذلك المعقل الأخير .
نلاحظ من خلال دراسة الوثائق السابقة أن أحمد باشا يحاول التقليل من قوة العسيرين. فقد رفض أحمد باشا الموافقة على التنازلات التي قدمها ابن مجثل ، ظنا منه أن سيتمكن من القضاء عليه بسهولة ، وكان هدف أحمد باشا الغدر بأمير عسير وإلقاء القبض عليه ، حيث تقول الوثيقة : ( ولما كانت مطالبهم هذه غير لائقة فقد أجبتهم وأفهمتهم أنه لا يعطى من قبلنا أماناً مثل هذا ، فإذا رغب الشقي المذكور أعطى الأمان لنفسه ، وقد أعيدوا بهذا الجواب وإلى الآن لم يعد الرجال المذكورين إلى طرف عبدكم . وأن مراد عبدكم أنه إذا قبل بمثل هذا الأمان أعطى إليه على أمل القبض عليه بعد ذلك ) .
وكان من نتيجة تعنت أحمد باشا واستهتاره بقوة العسيرين أن وقع في مأزق حقيقي ، حيث وصل إلى أبها بقواته ، ثم انقطعت الاتصالات بينه وبين السواحل . بسبب سيطرة ثوار عسير على المناطق الواقعة بين أبها وبين المواني الرئيسة لعسير مثل القنفذة وعتود . وقد بلغ من تأزم الموقف أن رسولاً بُعث إلى أحمد باشا عجز عن الوصول إليه في أبها ، على الرغم من محاولته التنكر بزي أعرابي إلا أنه أخبر في الطريق أنه سيقع في يد العسيرين إن آجلاً أو عاجلاً لذا فقد قرر العودة إلى جدة مرة أخرى دون أن يتمكن من مقابلة أحمد باشا المحاصر في أبها .
ومما ورد في تلك الوثيقة : ( فذهبت من جدة إلى القنفذة ومنها إلى مرفأ عتود الذي هو تحت مأمورية الشريف علي بن حيدر فطلبت من الشريف المذكور استحصال وسيلة للمسير بهجان في ريق مسلوك يوصل إلى طرف ولدكم المحافظ المشار إليه ومعسكر جيشه ، ولكن لم نتمكن من استحصال طريق للمسير حيث أجابني الشريف قائلاً : إن أشقياء عسير الذين لم يدخلوا في الطاعة يتجولون في الطريق من مرفأ عتود إلى عقبة مناظر )) .
وأزداد الأمر سوءاً عندما قام أحمد باشا بمحاولة للهجوم على السقا عاصمة عسير ، ومن ثم النزول إلى رجال ألمع بهدف القضاء على القوة الموجودة لعسير هناك . وعلى الرغم أن أحمد باشا تمكن من استقطاب بعض ضعاف النفوس من قبائل عسير التي استولى عليها وضمهم إلى جيشه ، إلا أن ذلك لم يجد شيئاً ، حيث حاول إنزال هؤلاء العسكر العرب إلى رجال ألمع لمهاجمة قوات عسير المتحصنة هناك ، فلقيت تلك القوات هزيمة شنيعة ووقع قائدها أغا مانع(1) أسيراً في أيدي رجال ألمع .
وقد أدى هذا التغير إلى ارتفاع الروح المعنوية بين رجال عسير ، فتقدموا من رجال ألمع إلى السقا حيث كان تمركز أحمد باشا وقاموا بمهاجمة قواته ، فحاول الانسحاب إلى طبب ولكن العسيرين أخذوا في ملاحقته أثناء ألانسحاب ، مما ألحق أقدح الخسائر بقواته إضافة إلى الاستيلاء على معظم المؤن والعتاد الحربي الذي كان في معسكر أحمد باشا ، وقد اضطرت هذه الهزيمة أحمد باشا إلى توقيع صلح مع عسير ، ويعترف بموجبه باستقلال مناطق عسير الممتدة من بلسمر وبارق شمالاً إلى حدود أبي عريش جنوباً ، وفي نفس الوقت سمح العسيرين لأحمد باشا بالجلاء بقواته نهائياً من عسير حيث أتجه بقواته إلى القنفذة ومنها إلى الحجاز .
ولم يمكث أمير عسير آنذاك طويلا بعد هذا الانتصار الكبير ،حيث وافته المنية في شهر صفر 1241هـ /1826م ، فتولى بعده ابن عمه علي بن مجثل ، وكان بمنزلة أمير عسير أثناء حياته ، وكانت ولايته قد حظيت بموافقة أهل عسير جميعاً .
وقد ظلت عسير صامدة في وجه محاولات محمد علي للاستيلاء عليها طوال فترة حكم علي بن مجثل ، الذي تولى الإمارة من عام 1241هـ إلى 1249هـ ، وكان موقف عسير قد أصبح أكثر قوة في أيامه مما كان عليه الحال أيام سعيد بن مسلط ، لأن عسير خلال حكم سعيد بن مسلط امتصت كل الهجمات والمحاولات التي قام بها محمد علي وأشراف الحجاز لاستعادتها ، بل أخذت تعمل على توسيع حدودها في المناطق المجاورة لها من الحجاز وتهامة مستغلة الظروف الصعبة التي كان يمر بها حكم محمد علي في الحجاز .
الحلقة الرابعة
بعد وفاة الأمير علي بن مجثل سنة 1249هـ أوصى لابن عمه عايض بن مرعي في تسلم مقاليد حكم عسير ، ووافق على ذلك أهل الحل والعقد فيها .
وكان عايض بن مرعي من أشجع وأنبل رجال عسير وأشدهم في الحروب ، توسم فيه ابن عمه علي بن مجثل الشجاعة والإقدام ، ورأى أنه أهل لمواجهة الموقف العصيب الذي تمر به عسير ، حيث كانت حدودها الشمالية والجنوبية تتعرض لهجمات قوات محمد علي المرابطة في المنطقة
كان أول عمل خارجي قام به الأمير عائض هو مهاجمة أبي عريش ، ويعود السبب في ذلك إلى أن شريف أبو عريش علي بن حيدر رفض أن يبايع عايض بن مرعي ، مدعياً أن العلاقة بينه وبين عسير انتهت بنهاية حكم علي بن مجثل . فكان رد عايض بن مرعي أن جهز حمله كبيرة تقدم بها نحو أبو عريش ، ولكن الشريف علي بن حيدر تمكن من الصمود ، حيث ساعدته بعض قوات محمد علي التي كانت تتمركز في حصون أبو عريش ، مما أضطر محمد بن عائض إلى فك الحصار عن أبي عريش والعودة إلى عسير ، وذلك في شهر ذي الحجة من عام 1249هـ .
وكان السبب الرئيسي الذي أجبر عايض بن مرعي على فك الحصار عن أبي عريش هو أن الأخبار وصلته بتقدم حملة كبيرة من الحجاز بقيادة شريف مكة محمد بن عون وأحمد باشا يكن محافظ الحجاز ، مما اضطره إلى فك الحجاز إلى فك الحصار عنها والعودة إلى عسير للدفاع عن بلاده والوقوف في وجه تلك الحملة الكبيرة ، وقد نجح نجاحاً كبيراً في قيادة عسير لمواجهة قوات محمد علي ، فعلى الرغم من قوة الحملة وكثرتها واستعدادها ، وعلى الرغم مما حققته من انتصارات أوليه إلا أنها منيت أخيراً بهزيمة شنيعة ، واضطرت إلى الجلاء عن عسير بعد معارك قوية خاضها أهل عسير تحت قيادة أميرهم عايض بن مرعي .
ومن أسباب نجاح عسير في صد هذه الحملة الكبيرة :
1. صعوبة المنطقة ووعورتها أدت إلى نجاح عايض بن مرعي في حربة ضد قوات محمد علي ، فعندما كانت تهاجم قوات محمد علي المراكز الرئيسية للعسيرين كان العسيريون ينسحبون إلى أعالي الجبال فيكونون في منأى عن القوات المهاجمة التي كانت لا تجسر على التقدم إلى الجبال لصعوبة المنطقة .
2.الأسلوب الذي أتبعه عايض بن مرعي ، هو حرب العصابات والذي طبقه قومه بنجاح كبير ، الأمر الذي جعل القضاء عليهم أمر عسيراًُ لعدم وجود قاعدة معينه يمكن مهاجمتها والقضاء عليها .
3.جهل القوات الغازية بالمنطقة ، إذ كانت تنقصها المعلومات التي تعرفها بها إذا لم تكن هناك دراسة جغرافية واجتماعية قد أعدت لخدمة القوات المهاجمة .
4.الضرائب والغرامات الباهظة التي فرضها الجيش الذي قدم من أجل إخضاع عسير ، مما دفع القبائل إلى الإتحاد ضد العدو وقتاله حتى النصر .
وبعد الانتصار الساحق الذي حققه عايض بن مرعي على قوات محمد علي في عسير لم تقم لقوات محمد علي قائمة خلال السنوات الثلاث اللاحقة ، ولذلك فقد أستغل الأمير عايض هذه الفرصة حيث تقدم على رأس قواته إلى بيشة ، وتمكن من إخراج الحامية الموجودة بها التابعة لمحمد علي ، وضم بيشه إلى إمارة عسير وكان ذلك في عام 1252هـ ، ثم واصل عايض بن مرعي تقدمه باتجاه الحجاز ، حيث تمكن من إدخال قبائل غامد وزهران تحت طاعته ، ولم يكتف بذلك بل أخذ يكاتب بقوم وشلاوة من قبائل الحجاز عارضاً عليهم الدخول في طاعته . وكان ذلك بمثابة الاستعراض للقوة ، وتحد كبير لقوات محمد علي الموجودة في الحجاز .
وعلى الرغم أن عايض بن مرعي لم يقم بمهاجمة قوات محمد علي المتمركزة في بسل قرب الطائف ، إلا أنه ضل مسيطراً على بلاد غامد وزهران ، وكان يتردد بقواته على تلك المناطق من حين إلى آخر ليطمأن على بقائها تحت سيطرته . ولم يستمر هذا الوضع طويلاً إذ قام محمد علي بتكليف أحمد باشا باستعادة بلاد غامد وزهران من سيطرة عايض بن مرعي ، وقد أستطاع أحمد باشا استعادة بلاد غامد وزهران في أوآخر عام 1253هـ . عندها تركها أعوان الأمير عايض بن مرعي ، حيث توجه بعضهم إلى شمران بينما توجه البعض الآخر إلى بيشه ، كما أن عايض بن مرعي قد أرسل قائده محمد بن مفرح على رأس فرقه من قوات عسير إلى بلاد بني شهر لاستطلاع أخبار قوات محمد علي في بلاد غامد .
وظل عايض بن مرعي يشعر أنه يجب عليه مقاومة قوات محمد علي مهما كانت النتائج ولذلك فقد جهز جيشاً كبيراً من كل قبائل عسير وتوجه به باتجاه بلاد غامد وزهران لمواجهة قوات محمد علي المتمركزة هناك ، بهدف استعادة بلاد غامد وزهران من يد قوات محمد علي ، وكذلك بهدف انتزاع زمام المبادرة من هذه القوات ، فبعد أن كانوا هم الذين يحددون الزمان والمكان للمعركة ، رأى عايض بن مرعي أن ينهي هذه القاعدة ويقوم بمهاجمتهم في مواقعهم .
ولقد كان هجوم عايض بن مرعي على بلاد غامد وزهران أمنية أحمد باشا ، فطالما ذكر في رسائله أنه بانتظار هجوم عايض بن مرعي على بلاد غامد وزهران ، وأن لديه معلومات وافيه تؤكد التحضير لهذا الهجوم ، وقد أعد بكل دقة الخطة التي سيواجه بها هذا الهجوم .
وتمت المواجهة بين قوات محمد علي وبين أهل عسير في شهر صفر عام 1254هـ ، وحدثت معركة خاطفة اندفع فيها أهل عسير نحو قوات محمد علي المتمركزة في مواقع حصينة ، فأصلتهم القوات المدافعة ناراً حاميه ، وزاد من هول المفاجأة الخطة المحكمة التي وزع بها أحد باشا قواته ، فكلما حاولوا الدخول من جهة وجدوا فيها فرقة متمركزة ، فأدى ذلك إلى وقوع الارتباك في صفوف قوات عسير ، وعندما لم يتم لهم النصر في وقت مبكر لم يعد أمامهم سوى الفرار ، ووقعت أعداد كبيرة منهم في الأسر ، وسقطت أعداد أخرى بين قتيل وجريح .
ويذكر أن من بين الأسباب لهزيمة أهل عسير وهو غدر قبائل غامد وزهران بعسير ، ومهاجمتهم لهم من الخلف عندما ابتدأت الهزيمة تلوح في الأفق ، مما أحدث بلبلة كبيرة في صفوف العسيريين ، وقد قتل أعداد منهم على أيدي غامد وزهران ، كما سلبوا أسلحتهم وأمتعتهم أيضاً . وكان الأجدر بعايض بن مرعي أن يضع هذا العامل في الحسبان ، وأن يحاول نقل المعركة إلى مكان يأمن غدر أهله بدلاُ من أن يضع نفسه بين نارين ، أحمد باشا من الأمام وقبائل غامد وزهران من الخلف .
ولم يقتصر دور قوات محمد علي في الحجاز واليمن على المواجهة العسكرية مع عسير ، بل تعدى ذلك إلى تحريض بعض القبائل على الثورة على أمير عسير عايض بن مرعي عام 1253هـ وتشير الوثائق إلى أن ابن عطيف هذا كان يتعاون مع قوات محمد علي في الحجاز ، حيث عثرت على وثيقة فيها عهدة عسكرية لعدد من زعماء القبائل في الجزيرة العربية من بينهم أحمد عطيف ولم تشر الوثيقة إلى ماهية تلك العهدة وسببها ولكن تدل على أن قادة محمد علي في الحجاز دفعوا له الثمن الذي يمكنه من القيام بالثورة على أمير عسير آنذاك .
ولم يقف عايض بن مرعي موقف المتفرج من تلك الثورات التي قامت أثناء وجود قوات محمد علي في الحجاز واليمن ، بل قضى عليها بكل قوة ، ففي عام 1255هـ قضي أمير عسير على تمرد قبيلة ( الجهرة ) وهي من قبائل شهران ، التي قد أخلت بالأمن وسببت الكثير من المشكلات في المنطقة ، فلم يتساهل عايض بن مرعي مع هذه القبيلة ـ نظراً لظروفه الصعبة ـ وإنما قام بتأديبها وإجبارها على الخلود إلى الهدوء والسكينة .
وعلى العموم فقد استفاد عايض بن مرعي كثيراً من تجربته في بلاد غامد وزهران ، فلم يكرر مهاجمة تلك المناطق ، بل ظل يستفز أحمد باشا ، ويتظاهر باستعداده للهجوم على جيشه بين لحظة وأخرى ، وعندما حان موعد الانسحاب من عسير والحجاز ظل أحمد باشا خائفاً يترقب هجوم عايض بن مرعي . ولم يحرك عايض بن مرعي ساكناً بل ظل ينتظر ما سيسفر عنه ذلك الانسحاب . ولكن مما زاد من خوف أحمد باشا أن كثيراً من القبائل الخاضعة له عندما علمت بالانسحاب أخذوا يتوافدون على عايض بن مرعي بن مرعي ، مقدمين له فروض الطاعة والولاء بعد أن أصبحوا في مأمن من أحمد باشا وقواته . وكان أحمد باشا على علم بكل هذا ، ولكنه لا يستطيع أن يحرك ساكنا لأنه كان مشغولاً في التفكير في كيفية الانسحاب بجيشه من المنطقة بسلام .
ومن خلال إلقاء نظرة عامة على موقف عايض بن مرعي خلال وجود قوات أحمد باشا في الحجاز يتضح لنا مدى صعوبة ذلك الموقف فقد ظلت عسير عموماً في حالة استنفار طوال وجود قوات أحمد باشا في الحجاز ، وكان ذلك الاستعداد نتيجة حتمية لهجمات أحمد باشا المتلاحقة على عسير ، وعلى الرغم من أنها منيت في الغالب بالهزيمة إلا أنها قد أبقت عسير في حالة استنفار وترقب طوال وجود تلك القوات في الحجاز .
ومما لا شك فيه أن عائض بن مرعي قد تنفس الصعداء عندما بلغه خبر إنسحاب قوات محمد علي من الجزيرة ، لأن ذلك الإنسحال قد خفف عن كاهله عبئاً ثقيلاً ظل يحمله طوال وجود تلك القوات في الحجاز واليمن .
وقد أدى انسحاب قوات محمد علي من الحجاز واليمن إلى إزدياد أهمية عائض بن مرعي في عسير ، وذلك لكونه الأمير الوحيد في الحجاز واليمن الذي لم يعترف مطلقاً بسيادة محمد علي على بلاده من جهة ولم يمكن قوات محمد علي من السيطرة على عسير من جهة ثانية . فقد قضى عاماً كاملاً ويحارب هذه القوات حتى تمكن من إخراجها من عسير عام 1251هـ / 1845م .
وعندما علمت قبائل عسير الشمالية بإنسحاب قوات محمد من الجزيرة العربية أخذت ترسل وفودها إلى عايض بن مرعي مقدمة له فروض الطاعة والولاء . وفي الوقت نفسه سارع عايض بن مرعي إلى إعادة السيطرة على القبائل التي كانت خارجة عن طاعته أثناء وجود قوات محمد علي قي الحجاز . ففي عام 1256هـ أرسل عايض بن مرعي حملة لإعادة قبيلة بني عمرو إلى الخضوع لأمير عسير ، وكان على رأس تلك الحمله محمد بن مفرح المغيدي ، وقد عادت قبيلة بن عمرو إلى الطاعة صلحاً بعد مفاوضات بين قائد عايض بن مرعي وبين أعيان هذه القبيلة . وبهذا ابتدأ عائض بن مرعي في توطيد حكمه في عسير .
كما قام عام 1257هـ بتأديب قبيلة ربيعه المقاطره لإخلالها بالأمن والاستقرار ، كما قام بمساعدة أمير أبي عريش في إعادة بعض القبائل المتمردة إلى الطاعة والهدوء ، وفي عام 1258هـ قضى على الثورات التي أخلت بالأمن في (القهر) وبلاد قحطان .
وقد تمكن عايض بن مرعي إلى مد نفوذه وسيطرته حتى حدود الطائف شمالاً ، وأما جنوباً فقد مد حدوده في بلاد قحطان إلى حدود صعده ، كما قام عايض بن مرعي بمد حدوده شرقاً إلى نهاية حدود وادي تثليث حيث توجه على رأس حمله عام 1268هـ إلى بلاد تثليث فضمها إلى أمارته ونشر الأمن في ربوعها ، وقضى على الفوضى وقطع الطرقات فيها وبذلك دخلت تثليث ضمن بلاد عسير .
وقد ظل عايض بن مرعي يحكم عسير ثلاثاُ وعشرين سنه تمكن خلالها من توطيد دعائم الأمن في البلاد ، كما مد حدودها إلى قرب الطائف والليث شمالاً وإلى باقم جنوباً وتثليث شرقاً . وقد توفي رحمه الله سنة 1273هـ .
الحلقة الخامسة
يعد الأمير محمد بن عائض الذي حكم عسير من 1273هـ - 1289هـ أول أمير عسيري تؤول إليه الإمارة بالوراثة من والده . حيث كانت قبل ذلك تؤول إلى الأرشد من القرابة .
ما أن تولى محمد بن عائض زمام الحكم في عسير حتى قرر أن يتوجه إلى أبي عريش لإقرار الأمور بها ، وكان ذلك في عام 1273هـ . وقد تمكن من ذلك بعد أن هدم حصون أبو عريش ، ووزع المسؤوليات على عدد من الأشراف الذين وثق في إخلاصهم . حيث عين الشريف الحسن بن محمد عاملاً له في المخلاف السليماني .
وفي عام 1274هـ توجه محمد بن عائض لتفقد أحوال أمارته في الشمال ، حيث وصل إلى بيشة ومكث بها فترة ثم توجه إلى بلقرن وغامد وزهران وذلك لإصلاح شؤون تلك الجهات وتنظيمها ، حيث عين عبد الله بن علي بن مجثل قائداً لسرية ترابط ببلاد غامد وزهران .
ولم يكد محمد بن عائض يصل السراة مطمئناً إلى استقرار أبو عريش وبلاد غامد وزهران ، حتى وصل إلى نجران الحسن بن الحسين مستنجداً بقبائل يام ضد عامل ابن عائض الشريف الحسن بن محمد . الأمر الذي جعل محمد بن عائض يرسل خطاباً إلى الشريف الحسن بن محمد ينصحه بالمقاومة وعدم الاستسلام والرفع له في حالة نزول يام إلى تهامة ليمده بالقوة والنجدة لتقضي عليهم .
ولكن نصائح محمد بن عائض لم تلقى آذاناً صاغية لدى الشريف الحسن بن محمد . وبلغ به الأمر أن عقد معهم اجتماعاً سرياً وبعدها استسلم الحسن بن محمد ووافق على الدخول في طاعة الحسين بن الحسن ، كما تعهد بإخراج الحامية العسيرية من قلعة ( دار النصر ) ، وقد تم له ذلك بعد مفاوضات طويلة مع سعيد بن مرضي أمير العسيرين المرابطين بدار النصر .
ويظهر أن جلياً أن أشراف المخلاف السليماني لم يكونون يميلون إلى حكم محمد بن عائض ، وأنما كانوا يرون في ذلك حملاً ثقيلاً يعملون على التخلص منه ، بكل الوسائل حتى ولو استعانوا بألد أعدائهم وهم يام . والدليل على ذلك هو أن الحسن بن محمد حاكم أبي عريش من قبل محمد بن عائض وافق على التعاون مع يام والدخول في طاعة الحسن بن الحسين مع تعهده بإخراج الحامية العسيرية من حصون المدينة دون أن يطلب منهم القتال إلى جانبه .
شعر محمد بن عائض أن الموقف قد يخرج من يده تماما ، فقام بحمله جديدة على المخلاف السليماني ، وتمكن من حصار أبي عريش حتى تم الصلح على أن يسلم الحسن بن الحسين مبالغ سنوية لأمير عسير مع الاعتراف بالتبعية الاسمية له ووقع الاتفاق في شهر ذو الحجة من عام 1273هـ .
وفي عام 1275هـ دبر الحسن بن محمد مؤامرة لقتل الحسن بن الحسين وقام بتنفيذ المؤامرة بعض عبيد الحسن بن محمد وبذلك عاد إلى تولي إمارة أبي عريش .
لم يرضى محمد بن عائض بهذا التصرف لأنه لم يكن راضياً عنه لتآمره مع الحسن بن حسين ويام أيام إمارته الأولى .
فجمع الجنود وتوجه إلى تهامة المخلاف السليماني وتمكن الأمير محمد بن عائض من الاستيلاء على أبي عريش بالقوة بعد أن هرب الأمير الحسن بن محمد تحت جنح الظلام إلى نجران واستقر بها حتى عام 1280هـ حيث قتل على يد قبائل يام .
ولم يكتف الأمير محمد بن عائض بالاستيلاء على المخلاف السليماني ، بل أنه تحرش بالعثمانيين في المواني الساحلية فوصل قرب الحديدة ثم عرج إلى جازان فاستولى عليها وجعل عليها عاملاً . ثم رجع إلى أبو عريش وفي هذه المرة لم يعين واحد من الأشراف أميراً على أبو عريش بل عين الشيخ أحمد بن حسن الحازمي عاملاً عليها والذي ظل مخلصاً لأمير عسير فترة من الزمن .
وقد ذكرت بعض المصادر العثمانية عن هذه الواقعة مانصه " وفي بداية 1280هـ قام أمير عسير الأمير محمد بن عائض بالهجوم على تهامة اليمن حباً في توسيع ملكة ، وخلال هجماته على المناطق التابعة لقضاء ( لحية ) استولى على قلعة مرفأ (جازان ) وهدم ثلاثة عشر برجا بالإضافة إلى المنازل والخانات التي كان قد أقامها الشرفاء ذوي الخيرات في الأزمنة القديمة في أبو عريش " .
ومع هذا فإنه لم يهن على العثمانيين استيلاء أمير عسير على ميناء جازان إذ سرعان ما بعثوا قوات عثمانية تمكنت من إخراج الحامية العسيرية من قلعتها وعندما حاول عامل محمد بن عائض على المخلاف السليماني التصدي لهم ، هزم هزيمة منكرة .
ومع أن النجدات وصلت من عسير إلا أن تلك القوات لم تشتبك مع القوات العثمانية ولم تحاول استعادة ميناء جازان بل أكتفت بالمحافظة على بقية المناطق الداخلية في المخلاف السليماني .
وبعد وفاة عامل محمد بن عائض في المخلاف السليماني تولى بعده أخوه محمد حسن الحازمي ، الذي توفي هو الآخر في ظروف غامضة ، وفي نفس الوقت تم الاتفاق بين الدولة العثمانية وبين الأمير محمد بن عائض على أن يتنازل ابن عائض عن المناطق الواقعة إلى الجنوب من ضمد بما فيها أبو عريش ، بينما بقي لمحمد بن عائض صبيا والمخلاف والمناطق الواقعة إلى الشمال منها . ثم في عام 1281هـ أضطر الأمير محمد بن عائض إلى التنازل عن المخلاف السليماني درءاً للصدام مع العثمانيين .
ويعتبر هذا العام نهاية حكم آل عائض للمخلاف السليماني حتى عام 1287هـ بعدها قرر الهجوم على المخلاف السليماني وأخرج الحاميات العثمانية منها وواصل في هجومه إلى السواحل اليمينية وبالتحديد إلى الحديدة ، وحاصر حاميتها العثمانية وعندما أوشك على اقتحام أسوارها والاستيلاء عليها بلغه توجه حملات عثمانية إلى عسير ، مما أجبره على فك الحصار عن الحديدة ليعود مسرعاً إلى عسير تاركاً المخلاف السليماني والسواحل اليمانية ، على أمل أن يتمكن من إعادة الكرة بعد صد الهجوم الكبير على بلادة .
ومهما يكن من شيء فقد أدى الإصرار من الأمير محمد بن عائض على الاستيلاء على جازان والسيطرة على المخلاف السليماني وتهامة اليمن إلى اهتمام الدولة العثمانية بالأمر أشد اهتمام . وعلى الرغم من تودد محمد بن عائض للخديوية في مصر وتبادل الرسائل معها إلا أن ذلك لم يحل دون تعاون الخديوية مع الدولة العثمانية ، فقد اضطر الباب العالي إلى أن يلجأ إلى والي مصر إسماعيل للاستعانة به في إخماد ثورة العسيريين ضد العثمانيين في منطقة عسير وما جاورها ، فما كان من والي مصر إلا تلبية طلب السلطان العثماني .
وبناءً على هذه الأحداث تحرّك من مصر إلى جدة ثلاثة طوابير مشاة ، وعدد كاف من المدافع تحت قيادة الميرالاي إسماعيل بك أحد أمراء مصر ، وكانت القرارات التي اتخذت بشأن مهمة هذه القوات أن ترسل إلى القنفذة وأن يستمر القتال حتى يتم الاستيلاء على ميناء جازان ، وكانت تلك القرارات تحظى بتأييد السلطان العثماني نفسه .
وعلى الرغم من توجه تلك القوات إلى جده إلا أن مسألة مهاجمة العسيريين كانت لا تزال مجال أخذ ورد ، حيث وصل كتاب إلى قائد القوات المصرية يأمره بالإنتظار هذا نصه " قد علمنا مما أوضحتموه في مكاتبتكم المؤرخة في 9 صفر 1282هـ الوارد من عدة أيام أنكم غادرتم مكة إلى جدة بسبب تقرر ارسال قوة عسكرية براً وبحراً على العسيريين فنبلغكم بأن الباب العالي ابلغنا لوجودنا في استانبول أن قراراً جديداً صدر بإرجاء مسألة إرسال قوة عسكرية إلى حدود عسير في الوقت الحاضر ، وعلى ذلك فأننا نأمركم بصرف النظر عن السفر ولإقامة مع العسكر الموجودين معكم في جدة أو في مكة في الجهات التي يجود هواؤها ".
ولم تمكث تلك القوات طويلاً في الحجاز إذ سرعان ما وصلتها الأوامر بالتوجه إلى القنفذة في طريقها لملاقات العسيرين
الحلقه السادسه
يبدو أن الأمير محمد بن عائض لم ينو القيام بمواجهة مع تلك القوات مما دفع شريف مكة إلى عدم تصديق ما يحدث وظن أن في الأمر خدعة ، فبعث يطلب إمدادات وقوات إضافية .
وعلى الرغم من إرسال الجناب العالي في مصر تلك القوات إلى الحجاز امتثالاُ لأمر الباب العالي ، إلا أن وجودها كان بمثابة الضغط على أمير عسير ليرضخ للأوامر والخضوع للدولة العثمانية .
ولقد تحقق للحكومة المصرية ما كانت ترجوه بعدم الاشتباك مع أمير عسير ، والوصول إلى حل المشكلة عن طريق التفاوض وبذلك تقرر عودة الجنود المصريين إلى بلادهم .
كما بعث خديوي الأقطار المصرية إلى محمد بن عائض رسالة وضح فيها مدى إعزازه وتقديره لمحمد بن عائض وبين فيها أن سبب قرار الدولة العثمانية بمهاجمته هو ما قيل عن ابن عائض ، من عدم طاعته للدولة العثمانية وميله للاستقلال ، كما أنه وعده بمنحه لقب أمير الأمراء إن اثبت الطاعة للدولة العثمانية .
ومن هنا نستنتج حقيقتين هامتين :
الأولى : أن إصرار الدولة العثمانية على القضاء على إمارة آل عائض في عسير إنما كانت بسبب الوشاة والحساد الذين كانوا يضخمون خطر هذه الإمارة الناشئة على الدولة العثمانية .. من أمثال أشراف الحجاز .
الثانية : احتفاظ الخديوية في مصر بعلاقة قوية مع أمير عسير بدليل نجاح سفارتها لدى أمير عسير في اعترافه الأسمى بسلطة الدولة العثمانية ، أضف إلى ذلك إصرار خديوي مصر على إعادة سفيرة مرة ثانية بحجة السلام على ابن عائض ومشافهته بشأن المودة الحقيقية بينه وبين أمير عسير .
ونتيجة لكثرة الاضطرابات والدسائس التي كانت تحاك ضد محمد بن عائض من قبل العثمانيين وأشراف الحجاز والمخلاف السليماني أضطر التنازل عن معظم المخلاف السليماني وساحل اليمن وسلمها إلى الدولة العثمانية وذلك بهدف تجنب نقمتها عليه .
وعلى الرغم من تمسك الأمير الحرفي بالاتفاقات التي كانت بينه وبين الدولة العثمانية ، فأن الشكاوي والوشايات ظلت تصل تباعاً إلى الباب العالي وإلى الخديوي في مصر تتهم محمد بن عائض بتعدي الحدود والخروج على طاعة الدولة العثمانية ، فكتب إليه خديوي مصر رسالة مؤثرة ينصحه فيها بعدم الميل إلى الحرب والبقاء تحت طاعة الدولة العثمانية
وفي آخر الرسالة يشدد الخديوي على محمد بن عائض بأنه يجب الالتزام بالعهود والمواثيق وإلا فأنه لن يحصل له إلا الندم . وفي ذلك تأكيد على غضب الخديوية من محمد بن عائض لأن الرسالة تتضمن عتاباً ، وفي بعض فقراتها تحذير وتهديد ، والجدير بالذكر أن الخديوية هي التي رعت الاتفاقية التي تمت بين أمير عسير محمد بن عائض وبين الدولة العثمانية .
وفي هذه الأثناء أحاط العثمانيون بإمارة عسير من الشمال والجنوب ، وأخذوا يتحينون الفرصة المناسبة لسحق تلك الإمارة العربية ، ومما ساعدهم على ذلك أن الأمير لم يكن في مرونة والده مما جعله يشغل نفسه بمحاربة العثمانيون في تهامة بصورة استفزتهم ودفعتهم إلى القضاء على أمارته .
واستمرت الشكايات تتوالي من أشراف أبو عريش ومن أشراف الحجاز لسبب ولغيره بهدف إثارة الدولة العثمانية على محمد بن عائض .
هجوم الأمير محمد بن عائض على الحديدة
يبدو أن الأمير محمد بن عائض أدرك أنه لن يستقيم له الحال ما بقي العثمانيون ومن يساعدهم في المخلاف السليماني ، لذا فقد قرر إخراجهم من المناطق التي ينزلون بها وجمع جنوداً لذلك من عسير وقحطان وشهران وبنو شهر وغامد وزهران ، وقرر تنفيذ ما عزم عليه وتوجه إلى المخلاف السليماني لإخراج العثمانيون من المنطقة نهائياً .
وفي الواقع أن ما قام به محمد بن عائض يعتبر مغامرة عسكرية خاطئة لأنه كان في موقف صعب من ناحية التسليح . ومهما يكن من شيء فقد كان هجوم محمد بن عائض على الحديدة مفاجأة كبيرة لكثير من المؤرخين ، فلم يكن لها تعليلاً مقنعاً لدى أي مؤرخ . إلا أن ضيق محمد بن عائض بالعثمانيين وتواجدهم في المخلاف السليماني قد يكون هو السبب .
وبعد أن أكمل محمد بن عائض استعداداته العسكرية لتنفيذ ما عزم عليه توجه بقواته إلى المخلاف السليماني فقصد أبو عريش وقام بإخراج الحامية الموجودة في قلعتها واستولى عليها . ثم ضرب الحصار حول قلعة جازان حتى سقطت في يد قواته ، ثم وصل إلى باجل واستمال قبائلها وعلى رأسهم شيخهم ثم قام بحصار الحديدة على الفور وتمكن من إكمال تر